الأحد 30 تشرين الثاني 2025
26 تشرين الثاني 2025
الأحد 30 تشرين الثاني 2025
العدد 48
الأحد 25 بعد العنصرة
اللحن الثامن، الإيوثينا الثالثة
أعياد الأسبوع:
30: الرَّسول أندرواس المدعوّ أوَّلاً،1: النبيّ ناحوم، فيلاريت الرَّحوم، 2: النبيّ حبقوق، بورفيريوس الرائي، 3: النبيّ صوفونيا، 4: الشَّهيدة بربارة، البارّ يوحنَّا الدِّمشقيّ، 5: سابا المتقدِّس المتوشِّح بالله، الشَّهيد أنستاسيوس، 6: نيقولاوس العجائبيّ أسقُف ميراليكية.
إيمان أندراوس الرسول في (يوحنّا ١: ٣٥-٥٢):
نموذج للطاعة والشهادة
تُعدّ فصول الإنجيل الأولى بحسب يوحنّا بمثابة المدخل إلى عمل الربّ يسوع التبشيريّ وأثره على الناس، وخاصّة المقطع (يوحنّا ١: ٣٥-٥٢) الذي يصف اللقاءات الأولى مع التلاميذ. يقدّم هذا النصّ نظرة عميقة إلى طبيعة إيمان تلاميذ الربّ يسوع. ومن بين هؤلاء، يبرز اسم الرسول أندراوس، أخو سمعان بطرس، كنموذج للإيمان الفوريّ والفِعل المُبادر، الذي يصلح ليتّخذه المؤمنون نمطًا للتلمذة المسيحيّة.
يبدأ السرد عن الرسول أندراوس عندما كان تلميذًا ليوحنّا المعمدان. فبعد أن شهد المعمدان ليسوع قائلًا: "هوذا حَمَل الله"، كانت استجابة الرسول أندراوس، مع تلميذ آخر، فوريّة وغير مشروطة؛ "فسمع التلميذان كلامه فتبعا يسوع". هذا الخضوع الفوريّ للربّ إلهنا يعكس إيمانًا عميقًا يستند إلى الشهادة وينتهي بالطاعة. لم ينتظر أندراوس دليلًا إضافيًّا، بل سارع إلى معرفة من هو "الحمل" الذي يرفع خطيئة العالم. وحين سألهما يسوع: "ماذا تطلبان؟"، عبّر عن رغبته بالتقرّب منه ومعرفة مكان إقامته: "يا مُعلِّم، أين تمكث؟" (ع ٣٨). كانت رغبته الأساسيّة هي التتلمذ على قدمي المسيح المعلّم، وهذا من جوهر الإيمان الذي يسعى إلى معرفة الله والدخول في علاقة شخصيّة معه.
إنّ أروع تعبير عن إيمان أندراوس يكمن في ما فعله بعد قضائه ذلك اليوم مع يسوع. فعندما آمن بأنّ يسوع هو المسيح المنتظر، لم يحتفظ بالاكتشاف لنفسه. يُسجّل السرد الإنجيليّ: "هذا وجد أوّلاً أخاه سمعان، فقال له: قد وجدنا مسيّا". ولفظة "مسيّا" تعني "المسيح". هذه الجملة القصيرة هي شهادة على يقين إيمان أندراوس، الذي يقدّم نموذجًا رياديًّا لكلّ من أراد أن يتّبع المسيح. فالإيمان الحقيقيّ يجعل الإنسان نشطًا وتبشيريًّا. لم يحتفظ الرسول أندراوس بإيمانه لنفسه، بل دفعه ذلك إلى مشاركة البشرى السارّة مع أقرب الناس إليه. هذه المبادرة هي السمة الأبرز لإيمانه: فهو أوّل من تبع، وأوّل من وجد، وأوّل من قاد آخر إلى المسيح، لا سيّما سمعان الذي سيصبح "بطرس" صخرة الإيمان.
لقد أرست مُبادرة أندراوس النموذج الذي تكرّر في دعوة التلاميذ الأوائل. فبعد دعوة سمعان بطرس، أتت دعوة فيلبّس الذي بدوره وجد نثنائيل وجاء به إلى الربّ يسوع. لم يتطلّب إيمان أندراوس منه مناقشات معقّدة، بل كان وليد لقاء شخصيّ روحيّ لمس كيانه فنتج عنه يقين جازم: "قد وجدنا المسيح". هذا اليقين هو الذي جنّبه الشكوك كتلك التي أبداها نثنائيل لاحقًا عندما دعاه فيلبّس، لأنّ أندراوس اختبر واقع اللقاء مع المسيح ومعرفة المسيح، لا مجرّد نظريّة عن مجيء المسيّا المنتظر.
في الختام، يُعلّمنا المقطع يوحنّا ١: ٣٥-٥٢ أنّ إيمان أندراوس لم يكن إيمانًا سلبيًا أو خاملًا، بل كان إيمانًا فاعلًا تميّز بالسرعة والطاعة والمشاركة. لقد كان مستعدًّا للتخلّي عن معلّمه السابق (يوحنّا المعمدان) ليتبع من سمع عنه أنّه الأعظم، والأهمّ من ذلك، كان حريصًا على أن يشارك هذا الاكتشاف مع أخيه. لقد كان أندراوس شاهدًا ورسولًا أمينًا من أوّل لحظة، وثبت على التلمذة للمسيح يسوع حتّى النسمة الأخيرة؛ فقد صمد إيمانه أمام الموت على الصليب كمعلّمه.
الأرشمندريت يعقوب خليـل
عميد معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ
طروباريّة القيامة باللحن الثامن
إنحدَرْتَ من العلوِّ يا متحنِّن، وقبلْتَ الدفنَ ذا الثلاثةِ الأيّام لكي تُعتقنا من الآلام. فيا حياتنا وقيامَتنا، يا ربّ المجد لك.
طروباريّة الرسول أندراوس باللحن الرابع
بما أنّكَ في الرسل مدعوٌّ أوّلًا، وللهامة أخًا، ابتهل يا أندراوس إلى سيّد الكلّ أن يهب السلامة للمسكونة، ولنفوسنا الرحمة العظمى.
قنداق تقدمة الميلاد باللحن الثالث
أليوم العذراء تأتي إلى المغارة لتلد الكلمة الذي قبل الدهور ولادة لا تفسّر ولا ينطق بها. فافرحي أيّتها المسكونة إذا سمعت، ومجّدي مع الملائكة والرعاة الذي سيظهر بمشيئته طفلًا جديدًا، الإلهَ الذي قبل الدهور.
الرسالة: 1 كو 4: 9-16
لتكُنْ يا ربُّ رحمتُكَ علينا
ابتهجوا أيُّها الصدّيقون بالربّ
يا إخوةُ، إنَّ اللهَ قد أبرزَنا نحنُ الرسلَ آخِرِي الناسِ كأنَّنا مجعولونَ للموت. لأنَّا قد صِرنا مَشهَدًا للعالَمِ والملائكةِ والبشر نحنُ جهَّالٌ من أجلِ المسيحِ أمّا أنتمُ فحكماءُ في المسيح. نحنُ ضُعفاءُ وأنتم أقوياءُ أنتم مُكرَّمون ونحنُ مُهانون وإلى هذه الساعة نحنُ نجوعُ ونَعطَشُ ونَعْرى ونُلطَمُ ولا قرارَ لنا، ونَتَعبُ عامِلين. نُشتَمُ فَنُبارِك. نُضطهدُ فنحتَمِل يُشنَّعُ علينا فَنَتَضرَّع. قد صِرنا كأقذار العالم وكأوساخٍ يستخبِثُها الجميعُ إلى الآن. ولستُ لأُخجلكمُ اكتبُ هذا وإنَّما أعِظُكم كأولادي الأحبَّاءِ لأنَّهُ ولو كانَ لكم ربوةٌ منَ المُرشدينَ في المسيح ليسَ لكم آباءٌ كثيرون. لأنّي أنا ولدْتكم في المسيحِ يسوعَ بالإنجيل. فأطلبُ إليكم أن تكونوا مقتَديِنَ بي.
الإنجيل: يو 1: 35-51
في ذلك الزمان كان يوحنّا واقفًا هو واثنانِ من تلاميذهِ فنظر إلى يسوعَ ماشيًا فقال هوذا حمَلُ الله فسمع التلميذان كلامَهُ فتبعا يسوع. فالتفت يسوع فأبصرَهما يتبعانِهِ فقال لهما ماذا تطلُبان. فقالا لهُ رابّي (الذي تفسيرُهُ يا معلّم) أين تَمْكث. فقال لهما تعاليا وانظرا. فأتيَا ونظرا أينَ كان يمكُث ومكثا عندهُ ذلك اليوم، وكان نحوَ الساعة العاشرة وكان أندراوس أخو سمعانَ بطرس واحدًا من الاثنين اللذَين سمعا يوحنّا وتبعا يسوع فهذا وجد أوّلًا سمعانَ أخاهُ فقال لهُ قد وجَدْنا مَسِيَّا الذي تفسيرُهُ المسيح وجاءَ بهِ إلى يسوع. فنظر إليهِ يسوع وقال أنت سمعان بن يونا، أنت تُدعى صَفا الذي تفسيره بطرس. وفي الغد أراد يسوع الخروج إلى الجليل فوجد فيلِبُّسَ فقال لهُ اتبَعني وكان فيلبُّس من بيتَ صيدا من مدينةِ أنداروسَ وبطرس فوجد فيلبُّس نثنائيل فقال له إنَّ الذي كتب عنهُ موسى في الناموس والأنبياءِ قد وجدناهُ وهو يسوعُ بنُ يوسفَ الذي من الناصرة فقال لهُ نثنائيل أمنَ الناصرةِ يُمكن أنْ يكونَ شيءٌ صالح. فقال لهُ فيلبُّس تعال وانظرْ. فرأى يسوع نثنائيل مُقبلًا إليهِ فقال عنهُ هوذا اسرائيليٌّ حقًّا لا غِشَّ فيهِ. فقال لهُ نَثَنائيل من أينَ تعرفني أجاب يسوع وقال لهُ قبل أنْ يدْعوك فيلبُّسُ وأنت تحت التينة رأيتُك أجاب نثنائيل وقال يا معلّم أنت ابن الله أنت ملك إسرائيل أجاب يسوع وقال له لأنّني قلت لك إنّي رأيتُك تحت التينة آمنْت، إنَّك ستعايْن أعظم من هذا وقال لهُ الحقَّ الحقَّ أقولُ لكم إنَّكم مِنَ الآن ترون السماءَ مفتوحةً وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن البشر.
في الرسالة والإنجيل
يصادف في هذا الأحد عيد القدّيس أندراوس الرسول المدعوّ أوّلًا، لذلك خصّصت الكنيسة المقدّسة مقطعي الرسالة والإنجيل للعيد.
نقرأ هذا المقطع الرسائليّ في كلّ أعياد الرسل عمومًا لأنّ الكلام الذي قاله الرسول بولس إنّما ينطبق على الرسوليّة دون استثناء، بينما يمكن أن يختلف المقطع الإنجيليّ وذلك ليبرز أو ليضيء على الرسول المعيّد له.
وقد ازداد العيد إشراقًا على إشراق لأنّه وقع يوم القيامة. فالرسول ليس مبشّرًا بها فقط إنّما هو قائم مع المسيح إلى الأبد. وكما نعلم تندمج خدمة عيد الرسول مع خدمة القيامة كما في كلّ أعياد والدة الإله وسائر القدّيسين.
وفي تأمّلنا في ما يقوله الرسول بولس عن الرسوليّة نرى أنّ الشخص الذي يمكنه أن يكون رسولًا بالفعل هو ذاك الذي يحبّ المسيح فوق كلّ شيء، محتملًا ضعف الآخرين لكي يلدهم في المسيح يسوع بالإنجيل.
يعدّد الرسول بولس صفات الرسوليّة، حبّذا لو نتعلّم منها شيئًا ينفع حياة كلّ واحد منّا حتّى لو لم يكن إكليريكيًّا يكفي أنّنا مولودون من رحِم واحد أي جرن المعموديّة فالتعليم لنا جميعًا "فأطلب إليكم أن تكونوا مقتدين بي.
كلمتان وردتا في الرسالة "نُشتم فنبارك". إذ لا يجوز للمسيحيّ أن يشتم من شتمه لأنّ الشتيمة تتحرّك من الشرير فيمتلئ لسانك شرًّا لا يحصى إن استمررت بالشتائم وهذا يُفرِح إبليس. كن فطِنًا ولا تنخدع بدغدغات الشيطان، وافهم لو أنّك تبارك من يشتمك فسيمتلئ لسانك أنت بركات لا تحصى تنزل عليك من السماء وربّما تحوّل الآخر أو تجعله يفكّر بما قاله فيتوب عن خطئه ويغدو ابنًا لله وأخاً لك.
أرأيت البركات يا من تقرأ! هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب ...
نتيجة هذا السلوك أنت تتبع المسيح بحال من الأحوال لأنّك تركت كلّ شيء وتبعت المسيح. ماذا تركت عندما باركت ولم تشتم؟ تركت كبرياءك، عُجبك بنفسك والتعالي على الآخرين، الغضب وكلّ شرّ.
وماذا اكتسبت؟ الوداعة وتواضع القلب "كونوا وديعين ومتواضعي القلوب فتجدون راحة لنفوسكم" ومن يملك قلبًا متّضعًا خاشعًا فلن يرذله الله.
رسوليّتك في قلبك. المسيح في الميلاد سيولد في مغارة قلبك وليس في مغارة من ورق ليشرق سلامه من هناك على البشريّة المتخبّطة بالأحزان والاضطرابات.
هذا هو هدف الرسول أندراوس وكلّ الرسل أن يعمّ سلام المسيح في المسكونة كلّها. آمين
غاية الحياة المسيحيّة ومعرفة الله
كلّ كلام عن المسيح والحياة المسيحيّة لا قيمة له ما لم يكن هدفه الدخول أعمق في سرّ معرفة الله. ما قيمة تجسّد ابن الله وكلّ هذه الآلام التي احتملها على الصليب، إن لم تقد إلى معرفة مباشرة وعلاقة متبادلة حيّة بين الله والإنسان، بين الخالق وخليقته. لكن ما هي الوسيلة التي بها نبلغ هذه الشركة المباشرة مع الله، في الوقت الّذي تبقى فيه قدرات الإنسان الساقط هشّة ومغلوبة من أهواء وخطايا لا تُحصى. كيف يُمكن لهذا الذهن المثقل بأهوائه وشهواته وهذه الإرادة المريضة بميولها الأنانيّة أن ترتفع إلى حيث نزل الله؟
إنّ عقيدة معرفة الله والشركة المباشرة معه كانت الحافز الرئيسيّ لدفاع آباء الكنيسة القدّيسين ضدّ الهرطقات العديدة التي شوّهت هذه الحقيقة. فمن زمن الغنوسيّين، في القرون الأولى للمسيحيّة إلى اليوم، لم ينقطع العقلانيّون، من خارج الكنيسة ومن داخلها، عن إسقاط مستوى الحياة المسيحيّة من مسيرة تألّه إلى مستوى أخلاقيّات جيّدة وتصرّفات اجتماعيّة حسنة. التلاعب بعقائد الإيمان وبالخبرة الروحيّة الأرثوذكسيّة والقوانين الكنسيّة، لتتأقلم مع روح العصر، لا يدلّ إلّا على نفس مُلوّثة بروح شرّيرة، مات فيها كلّ حسّ روحيّ. الله هو النقاء المطلق والمقتربون إليه ينبغي أن يكونوا أنقياء، بالإيمان والعمل، بمقدار ما هو مستطاع عند المخلوق البشريّ.
مسيرة التألّه هي مسيرة تطهير القلب الداخليّ؛ لأنّ المسيح بوضوح يقول: "طوبى لأنقياء القلوب لأنّهم يُعاينون الله". إنّها معاينة فعليّة وليست رمزيّة، تتحقّق أوّلًا في القلب الداخليّ. يُمثّل القلب مركز كلّ الوجود البشريّ، الروحيّ والجسديّ، ومركز كلّ جهاده الروحيّ. نقاوة القلب تتحقّق حين يبلغ الإنسان حفظ كلّ الوصايا الإنجيليّة. يقول القدّيس إسحق السريانيّ: "إذا كنت تحبّ نقاوة القلب ونقاوة العقل الروحيّ...، فالتصق بالوصايا السيّديّة". والقدّيس غريغوريوس بالاماس يقول: "وصايا المسيح... وحدها تحقّق بالقداسة تمثّلنا بالله. وحدها تحقّق كمال النفس البشريّة وتألّهها".
عمليّة تطهير القلب الداخليّ تبدأ بتطهير الذهن من الأفكار الباطلة والفاسدة التي تُهاجمه وتُحاول أن تستعبده. يتكلّم آباؤنا القدّيسون عن الذهن (باليونانيّة النوس νούς)، كقوّة روحيّة لا مادّيّة، وسيط بين العقل والقلب، هو العين التي من خلالها تنمو قوى النفس في معرفة الحقيقة أو تخدعها الشياطين. الذهن يمثّل البوابة الرئيسيّة لدخول الأهواء إلى القلب وخروجها منه. القدّيس يوحنّا السلّميّ، متكلّمًا عن الهدوئيّين، يوضح دور الذهن بالنسبة إلى القلب، فيقول: "صديق الهدوء عقل شجاع صارم ساهر عند باب القلب يبيد الأفكار الواردة إليه أو يبعدها".
فالقوى الشيطانيّة تُحاور الذهن لتعرف ضعفاته والأهواء التي فيه. ومن خلال هذه الأهواء تشنّ عليه حرب أفكار عنيفة لاستعباده ودفعه إلى الخطيئة الفعليّة. فالخطيئة، كلّ خطيئة تبدأ أوّلًا في الذهن، وبعد تبنّيها منه تنتقل إلى الفعل. والكثير من الأمراض النفسيّة سببها الرئيسيّ ضغط شيطانيّ هائل من الأفكار على الذهن البشريّ لا يستطيع احتمالها فتُظلِمُ ذهنَهُ وتُحطّم كلّ قواه النفسيّة والجسديّة.
الحرب الروحيّة تبدأ بمقاومة الأفكار الشيطانيّة، وتحتاج هذه إلى صلاة ذهنيّة مركّزة. في الأدب النسكيّ يتمّ التركيز على صلاة يسوع لإبعاد كلّ أنواع الأفكار، التي تقودنا إلى الخطيئة ونقض وصايا الإنجيل. الصلاة مُدعمّة بالتوبة والصوم، كانت دائمًا المحرّك الكبير في قدرة الإنسان على الانتصار في حرب الأفكار، بعد أن جعلت الخطيئة ذهن الإنسان يُسبى من أمور هذا الدهر العديدة، ليبقى متغرِّبًا عن الله. حفظ الذهن ونقاوته مستحيل من دون هذه الحرب ضدّ الأفكار والسيطرة عليها. فالانتصار على الأفكار هو الّذي يجعل ذهن الإنسان صالحًا وقادرًا على إتمام كلّ الوصايا؛ يرى الخطأ ولا يدين بل يعطف على الخطأة، ينظر ولا يحسد بل يفرح بنجاح الآخرين، يُحسن ولا يترجّى شيئًا بل يفرح بتعزية المتألّمين، يُضطهد ولا يحقد بل يغفر ويُصلّي لمضطهديه، يعمل ويخدم ويرعى الآخرين بروح التوبة وإنكار الذات. بهذه الروح يحفظ الإيمان ووصايا المسيح كفريضة مقدّسة، لا خلاص من دونها.
حفظ الوصايا الإلهيّة وتنقية الذهن إذاً، مستحيلان قبل إخضاع هذه الأهواء التي أساسها محبّة الذات الأنانيّة المتمرّدة على وصايا الله. حفظ وصايا المسيح ليس هدفه إتمام بعض أعمال الفضيلة الظاهرة، إنّما تحطيم قوّة الخطيئة التي تسود على حياتنا، والانتصار على جذورها التي نسمّيها الأهواء المعابة الفاسدة والشرّيرة. وهذا الجهاد لإخضاع أهواء الجسد يحتاج إلى أتعاب نسكيّة كبيرة، كما علّمته الخبرة الأرثوذكسيّة. وكلّ جهاد نسكيّ شرعيّ للجسد، كالصوم والسهر والتعب، ينعكس بدوره تلقائيًّا على النفس، يكبح هيجان الأفكار المضطرمة فيها. إذًا، الجهاد لضبط الأفكار والسيطرة عليها وطردها مستحيل من دون أتعاب الجسد النسكيّة. النسك وحده يُذلّل الأهواء التي تُقاوم وتُعيق تطبيق وصايا المسيح. يختصر القدّيس غريغوريوس بالاماس كلّ هذه المسيرة بقوله: "لنلبَـس أعمال التوبة، وانسحاق الأفكار، التواضع والحزن الروحيّ، وقلبًا وديعًا رحيمًا، يُحبّ الحقيقة وينشد الطهارة... لأنّ ملكوت السماوات، أو بالأحرى ملك السماء، هو في داخلنا. فلنرتبط به بأعمال التوبة، محبّين الله بكلِّ قدرتنا، هو الذي أحبّنا بهذا المقدار".
هذا التعب وكلّ العمل النسكيّ ليس هدفًا بحدّ ذاته، إنّما غايته "ارتفاع الذهن نحو الله والدخول في شركة معه". فالفضيلة المسيحيّة تبدأ حين ينقطع الذهن عن التشتّت بأمور هذا العالم، ويبلغ إلى التأمّل المستمر في ناموس الله. الذهن المشتّت بالأمور الدنيويّة الباطلة ينسى الله بسهولة. يؤكّد القدّيس بالاماس أنّ "لا أحد يستطيع أن يحصل على الطهارة الكافية لمعرفة الله، إلا بكمال الأعمال، وبالمثابرة في الطريق النسكيّ، وبالتأمل والصلاة القلبيّة. ويُعطي قدّيسنا أهمّيّةً كُبرى للصلاة ويؤكّد أنّه فقط بقوّتها تستطيع الخليقة أن تتّحِد بخالقها: "إنّ قوة الصلاة تُحقّق سِرِّيًا هذا الاتّحاد، بما أنّها الصلة بين الخليقة العاقلة والله".
هذا هو هدف ومضمون كلّ جهاد روحيّ وصلاة روحيّة حقيقيّة: اتّحاد الإنسان بالله. والمسيحيّ الّذي يتخلّى عن هذا الهدف يبقى مستمرًّا في عيش مأساة السقوط، ولا ينال شيئًا من عطايا السرّ الّذي أتمّه المسيح على الصليب. تخلّي الإنسان عن هذا الهدف كافٍ لانفصاله عن الله وليكون سبب كلّ سقطاته. يكتب القدّيس بالاماس: "الروح التي تنفصل عن الله تصبح إمّا حيوانيّة، وإمّا شيطانيّة".
إن هذه الحقائق التي يتكلّم عليها تقليدنا النسكيّ الأرثوذكسيّ لا تتغيّر بتغيّر الزمان وظروف العصر. المسيح ليس تاجرًا يُخفّض أسعار بضاعته إذا كسدت، إنّما هو أب قدّوس، نقيّ في كمال لا حدّ له، لا يتغيّر، لا يُخفّض وصاياه، ولا يُغيّر تعاليمه لتخضع لضعفات البشر وتهاونهم، لا لعلّة في ذاته إنّما لأجل كمالنا. ويطلب من مختاريه أن يحقّقوا هذا الكمال وهذه النقاوة للقلب الداخليّ، ليكونوا قادرين على الدخول في مجد ملكه الأبديّ.
وهكذا، فالمصالحة مع الله تتمّ عبر صليب المسيح، وبدقّة حفظ الوصايا وكثرة النسك والقداسة. لكن أيضًا بدقّة التوبة والاشتراك المتواتر في الأسرار الإلهيّة. الثمر الحقيقيّ لكل هذا العمل ليس نتاج المعرفة البشريّة والأخلاق الحميدة، إنّما هو عطيّة الروح القدس للمعمَّدين بالمسيح. لا بدّ من القضاء على الخطيئة الّتي كانت سبب سقوطنا، لأجل لقاء حيّ وحقيقيّ مع إلهنا الحيّ، في هذا القلب الداخليّ المولود جديداً بالنعمة الإلهيّة.