الأحد 2 تشرين الثاني 2025

الأحد 2 تشرين الثاني 2025

29 تشرين الأول 2025
الأحد 2 تشرين الثاني 2025 
العدد 44
الأحد 21 بعد العنصرة
اللحن الرابع، الإيوثينا العاشرة


أعياد الأسبوع:

2: الشُّهداء أكينذينوس ورفقته، 3: الشَّهيد أكبسيماس ورفقته، تجديد هيكل القدِّيس جاورجيوس في اللَّد، 4: إيوانيكيوس الكبير، الشَّهيدان نيكاندرس أسقُف ميرا وأرميوس الكاهن، 5: الشَّهيدان غالكتيون وزوجته إبيستيمي، أرماس ورفقته، 6: بولس المعترف رئيس أساقفة القسطنطينيَّة، 7: الشُّهداء الـ 33 المستشهدون في ملطية، لَعازر العجائبيّ، 8: عيد جامع لرئيسيّ الملائكة ميخائيل وغفرئيل.

محتاجٌ ومحسن

كنيستنا المقدّسة حدّدت أن نقرأ مثل الغنيّ ولعازر في الأحد الأوّل من شهر تشرين الثاني تكريمًا للقدّيسين كوزما ودميان اللذين نعيّد لهما في الأوّل من الشهر، والمعروفين بالعادمي الفضة، لأنهما كانا قد باعا كلّ ما ملكا وكرّسا حياتهما لخدمةِ المحتاجين. 

عمومًا، الإنجيل بحسب القدّيس لوقا يُعتبر "إنجيل الرحمة" فهو لا يوفّر فرصة دونَ أن يُظهر اهتمام يسوع بالمساكين والأرامل والخطأة والعشّارين والسّامرّيين وبكلّ المهمّشين، وقبل كلّ شيء اهتمامه بخلاصهم. مثل الغنيّ ولعازر يأتي في هذا السياق.

تبدو هذه التراجيديا مقسّمة إلى مشهدين متوازيين من حيث الامتداد ومتعاكسين من حيث وضع الشخصيّات، مع ذلك فإنّ مقارنة بسيطة بين امتداد الأبديّة ومحدوديّة "الدنيا" يكسر هذا التوازي الظاهريّ ويكشف الحقيقة: غنيُّ المثل كان فقيرًا بالحقيقة ولعازر كان الغنيّ، فهذا "يتعزّى" وذلك "يتعذّب". 
هذه المقارنة الإسختولوجيّة (وهو اللاهوت الذي يراقب أمور حياتنا على ضوء الحياة الأبديّة) يدفع القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم إلى أن يستنتج أنّه "لا يوجد من هو أكثر فقرًا من الخاطئ، ولا يوجد من هو أكثر غنًى من البارّ". إذًا فليس الثراء هو الذي يدين الغنيّ ولكن القسوة وعدم الحسّ. 

في المثل نجد أنّ صورة ملكوت السماوات حيث انتقل لعازر تتمثّل بطريقةٍ طريفةٍ بـ"حضن إبراهيم"، وهذا كان رجلًا ثريًّا أيضًا ولكنّه كان أيضًا كريمًا وبارًّا، أحسن إدارة غناه الماديّ بذكاء فظهر غنيًّا بالله. 
في الوقت نفسه، نجد أنّ تعزية لعازر التي كافأه الله بها لم تكن مقابل شقاء حياته على الأرض بل من أجل اتّكاله على الربّ (ليُلاحظْ أنّ المثل بينما تجاهل اسم الغنيّ، أعطى للفقير اسم "لعازر" ومعناه بالعبريّة "الله يعين"). 
يهوذا الإسخريوطيّ مثلًا كان فقيرًا بالمال كبقيّة الرسل، ومع ذلك فإنّ الطمع أظهره مأسورًا لمحبّة الفضّة وشقيًّا دون الرجاء.
فالثروات بحدّ ذاتها ليست شرًّا وإن كان فيها تجربة كبيرة. الاستعمال هو الذي يجعلها صالحة أو شرّيرة. 

ينطلق تعليم الإنجيل من الواقع الحاضر، وإذ يتطلّع إلى خلاص الجميع فهو لا يطالب بمساواة اجتماعيّة على أساس الملك الجماعيّ مثلًا، لكنّه يقترح إدارة صالحة وصبرًا مع رجاءٍ، هذه مجتمعةً تُغني هذا وذاك بالله، والإحسان يصير رباط حبٍّ: فالغنيّ يرى في الفقير محسنًا روحيًّا له، والمحتاجون "يشبعون ويسبّحون الربّ فتحيا قلوبهم". يقول القدّيس يوحنّا الرحوم بطريرك الإسكندريَّة أنّ الفقراء هم "أسيادُنا" لأنّهم "الوحيدون الذين يستطيعون أن يساعدونا لننال ملكوت السماوات".

فكيف يستطيع المسيحيّ الأمين على إيمانه أن يحمي نفسه من إغواء المال ويجتاز هوى السلطة؟ الجواب هو باليقظة: على عكس حالة غنيّ المثل الذي كان "يتنعّم كلَّ يومٍ مترفّهًا". صحيح أنّ الراحة والفرح هما جزء هامّ من طريقة عيشٍ صحيّة، لكنّ الرفاهيّة المبالغ فيها (والتي تنادي بها العصريةُ الذين معهم ويستطيعون لها) تجرِّدُهم شيئًا فشيئًا من الحسّ الروحيّ وتخدِّرُ ضميرَهم. داوود الملك اختبر الفقرَ الطوعيّ في قصره. بعيدًا من هذه "الطريق الضيّقة" يصير الإنسانُ السيّدُ عبدًا لثرواته ولملذّاته. الزهد الكلّي ليس وصيّةً للجميع أمّا التحرّر من الالتصاق بالمادّة فهو الهدف الرئيسيّ لكلّ جهادٍ مسيحيّ. 

الحقيقة الأُخرويّة التي نقرأ عنها في المثل الحاضر تفتح حدقتي ذهننا على الحسّ الروحيّ والمحبّة: محبّة توزِّعُ بسخاء فتبدّد الفقر المادّيّ وتشفي الشقاء الروحيّ. آمين.

+ إغناطيوس
متروبوليت المكسيك، فنزويلا وأميركا الوسطى وجزر الكاريبي 
         

طروباريّة القيامة باللحن الرابع

إنّ تلميذات الربّ تعلّمن من الملاك الكرزَ بالقيامةِ البَهج، وطَرَحْنَ القضاءَ الجَّدِّيَّ، وخاطَبنَ الرُّسُلَ مفتخراتٍ وقائلات: سُبيَ الموت، وقامَ المسيحُ الإله، ومنحَ العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.

القنداق باللحن الثاني

يا شفيعَةَ المسيحيّين غَيْرَ الخازية، الوَسيطةَ لدى الخالِق غيْرَ المردودة، لا تُعرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحة، نَحْنُ الصارخينَ إليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطلْبَةِ، يا والدةَ الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائمًا بمكرِّميك.


الرسالة: غلا 2: 16-20
ما أعظمَ أعمالَكَ يا ربُّ كُلَّها *بحكمةٍ صَنَعتَ
باركي يا نفسي الربَّ


يا إخوةُ، إذ نعلَمُ أنَّ الإنسانَ لا يُبرَّرُ بأعمالِ الناموسِ بل إنَّما بالإيمانِ بيسوعَ المسيح، آمنَّا نحنُ أيضًا بيسوعَ المسيحِ لكي نُبرَّرَ بالإيمانِ بالمسيح لا بأعمالِ الناموسِ، إذ لا يُبرَّرُ بأعمالِ الناموس أحدٌ من ذوي الجَسَد. فإن كنَّا، ونحنُ طالِبونَ التبريرَ بالمسيحِ، وُجدنا نحنُ أيضًا خطأةً، أفَيَكونُ المسيحُ إذنْ خادِمًا للخطيئة؟ حاشى. فإنّي إن عدتُ أبني ما قد هَدَمتُ أجعَلُ نفسي متعدّيًا، لأنّي بالناموسِ مُتُّ للناموس لكي أحيا لله. مع المسيح صُلبتُ، فأحيا لا أنا بل المسيحُ يحيا فيَّ. وما لي من الحياةِ في الجسدِ أنا أحياهُ في إيمانِ ابنِ الله الذي أحبَّني وبذلَ نفسَهُ عنّي.

الإنجيل: لو 16: 19-31
 
قال الربّ: كان إنسان غنيٌّ يلبس الأرجوان والبزَّ ويتنعَّم كلَّ يوم تنعُّمًا فاخرًا. وكان مسكينٌ اسمه لعازر مطروحًا عند بابه مصابًا بالقروح، وكان يشتهي أن يشبع من الفتات الذي يسقط من مائدة الغنيّ، فكانت الكلاب تأتي وتلحس قروحه. ثمّ مات المسكين فنقلته الملائكة إلى حضن إبراهيم. ومات الغنيّ أيضًا فدُفِن. فرفع عينيه في الجحيم، وهو في العذاب، فرأى إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه. فنادى قائلًا: يا أبت إبراهيم ارحمني وأرسل لعازر ليغمِّس طرف إصبعه في الماء ويبرِّد لساني لأنّي معذَّب في هذا اللهيب. فقال إبراهيم: تذكَّر يا ابني أنّك نلت خيراتك في حياتك ولعازر كذلك بلاياه. والآن فهو يتعزّى وأنت تتعذَّب. وعلاوة على هذا كلِّه فبيننا وبينكم هوَّة عظيمة قد أُثبتت، حتّى إنَّ الذين يريدون أن يجتازوا من هنا إليكم لا يستطيعون ولا الذين هناك أن يعبروا إلينا. فقال: أسألك إذن يا أبتِ أن ترسله إلى بيت أبي، فإنَّ لي خمسة إخوة حتّى يشهد لهم لي فلا يأتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب هذا. فقال له إبراهيم: إنَّ عندهم موسى والأنبياء فليسمعوا منهم. قال: لا يا أبتِ إبراهيم، بل إذا مضى إليهم واحد من الأموات يتوبون. فقال له: إن لم يسمعوا من موسى والأنبياء فإنَّهم ولا إن قام واحد من الأموات يصدّقونه.


حول الرسالة والإنجيل

"مع المسيح صُلبتُ، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ"
هذا الكلام الرائع أدبيًّا والعميق لاهوتيًّا، الذي كتبه وعاشه بولس الرسول، ماذا يعني لنا عمليًّا؟ وكيف نعيشه في حياتنا الشخصيّة والكنسيّة؟! الصليب هو أداةُ إعدامٍ عند الرومان، نتيجته الموت الحتميّ للإنسان المحكوم عليه، وبالتالي أن نُصلب مع المسيح، يعني أن نموت معه، ولكن كيف نموت ونحن أحياء، وكيف نحيا إن كنَّا سنموت؟!

الموت مع المسيح هو موتٌ عن كلِّ ما هو غريب عن الحياة الفردوسيّة التي أرادها الله للإنسان، التي هي الحياة بفرحٍ ومحبّةٍ وقداسةِ سيرة، هو موتٌ عن الخطيئة والأهواء والشهوات والأحقاد، وعن كلِّ تنعّمٍ ورفاهية. 

وبالأكثر هو موتٌ عن عدم الحسّ فينا، عدم الإحساس بالآخر وألمه! هذا الموت حصل لنا عندما دُفنّا معه في المعموديّة لنقوم معه، لكن يجب أن يحصل كلَّ يومٍ في حياتنا الشخصيّة وحياة الكنيسة. 

هذا الموتُ الطوعيّ اليوميّ، هو إماتة للـــ أنـــا التي فينا، أي أنانيّتنا ومصالحنا الشخصيّة، ويتطلَّبُ منَّا جهادًا روحيًّا يوميًّا وعيش الكلمة الإلهيّة، فنُميتَ كلَّ ما فينا من أفكار العالم، مبتعدين عن أساليب عيشه الدَّهريّة، هذه التي أصبحت تتسلَّل بوضوح إلى الحياة الكنسيَّة، ونُوقف سعيَنا نحو المجد الباطل والسلطة والغنى وكلّ طمعٍ وتسلُّط، مقتربين من كلِّ متألّمٍ ومشرَّد، ومن كلِّ لعازر يعيش فيما بيننا وفي رعايانا الكنسيّة.

نحن على الصعيد الشخصيّ والكنسيّ، علينا أن نعترف أنّنا قد تغرَّبنا كثيرًا عن حياة المحبّة والشعور بالآخر، وعن حياة البساطة والقناعة والتواضع التي عاشها الربّ يسوع على الأرض، والتي وحدها تليقُ بنا كمسيحيّين، ونحن نليقُ بها. 

لقد غرقنا في أمورٍ كثيرة، وأضَعنا البوصلة وتُهنا في دروبٍ شتَّى، وهكذا غيَّبْنا المسيحَ عن حياتنا الشخصيّة والكنسيّة! وأخالُ المسيحَ غريبًا وسط شعبه وكنيسته، حين يرى منطق العالم، منطق المال والكبرياء والتنعُّم والرَّفاهية مسيطرًا على النفوس وعلى الأجواء الكنسيّة، يُستثنى من ذلك قلَّة قليلة من الرُّعاة والرعيَّة.

الكثير من أبنائنا اليوم مطروحون مثلَ لعازر المسكين، عند أبواب مؤسّساتنا الكنسيّة، عند أبواب مشافينا ومدارسنا وجامعاتنا، لا يستطيعون تسديد تكاليف الاستشفاء أو الأقساط التعليميّة الباهظة، يستجدون فتات الحسومات والمساعدات الماليّة، ويشتهون أن يجدوا من يشعر معهم ويخفِّف من معاناتهم الخانقة، باتّخاذ قراراتٍ جريئة. 

أن نُصلبَ مع المسيح، فنحيا لا نحن، بل المسيح يحيا فينا، هذا يجب أن يحصل في حياة كلِّ واحدٍ منَّا، في كلِّ عائلة وفي كلِّ رعيةٍ وديرٍ وأبرشيَّة، وفي كلِّ مؤسّسةٍ كنسيَّة، والأكثر يجب أن يكون هذا شعار "المجمع المقدَّس" ونهجه الدائم، لكي يرى الجميع ويعاينوا المسيحَ حيًّا في الكنيسة ومؤسّساتها وفينا، ولكي لا نلقى مصير الغنيّ عند موتنا.


رؤيا وتدخُّلٌ عجائبيٌّ لوالدةِ الإلهِ المفيضة الطيب الشيخ برثانيوس رئيس دير القديس بولس جبل آثوس

عندما كنتُ صبيًّا في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمري، عصفت في بلادنا أهوالُ الحرب العالميّة الثانية. 
كنّا نعيش تحت القصف والانفجارات، وكان الخطر محدقًا بنا في كلّ حين. 

كنَّا نحن الأطفال نجمع بقايا القذائف والألغام ونتلهّى بإشعالها والنظر إليها عن قرب. مرَّت عليَّ لحظاتٌ تعرّضتُ فيها للموت مرّتين، ولكنّ عناية الله أنقذتني بأعجوبة. أؤمن أنّ صلواتِ والدتي ووالدي، وكانا من أهل التقوى والصلاح، هي التي حفظتني من الهلاك. 

بعد إحدى تلك الحوادث التي نجوتُ منها بأعجوبة، ذهبت والدتي واشترت لي أيقونةً لوالدة الإله Ελεούσα) “الحنونة)، ووضعتها عند وسادتي. قالت لي: "يا بُنيّ، لا أعرف ماذا أقول لك. لقد ابتعتُ لك هذه الأيقونة ووضعتها عند رأسك، فصلِّ أمامها؛ فإنَّ والدة الإله ستحفظك إمّا من ميتةٍ رديّة أو من حياةٍ أردأ – الله أعلم." 

تقبَّلتُ هديَّة أمي بفرحٍ شديد، وصارت تلك الأيقونة أعزَّ رفيقةٍ لي. كنتُ أصلِّي كل مساء أمامها بحرارةٍ عظيمة، وأتضرَّع إلى العذراء. لم أكن آنذاك أعرف تمامًا ماذا أطلب؛ فكنتُ أسألها أن تُعينني لأُصبح إنسانًا صالحًا في المستقبل – كأن أصير ضابطًا في الدرك أو موظّفًا ناجحًا، أيّ شيئًا ذا قيمة. 
ومع مرور الزمن ازداد قلبي التهابًا بالمحبّة نحوها، فصرتُ أطلب منها أن تُظهر لي الطريق الذي يريدني الله أن أسلكه، إذ لم أكن أعرف ما الذي أبتغيه حقيقةً. 

وذات ليلة، سمعتُ صوتها العذب المُفعم بالمهابة يخاطبني: "يا ولدي، لِمَ تُلحُّ عليَّ في الطلب؟ اذهبْ وأصبِحْ راهبًا!". اضطربت نفسي ونهضت مذعورًا أتساءل: ما عسى أن يكون هذا الذي سمعته الآن؟ ولم أدرِ أهو حقٌّ أم خداعٌ من الشيطان. 

فقد كنتُ أطالع بعض الكتب الروحيّة مثل "خلاص الخطأة" وأمثاله، وعرفتُ منها يسيرًا عن الحِيَل الروحيّة؛ فساورني الشكّ برهةً من أنَّ ما سمعتُ ربّما كان تجربةً شيطانيّة. 

في الليلة التالية صلَّيتُ بحرارةٍ أشدّ، ووقفتُ أمام أيقونة العذراء متضرِّعًا بمحبَّةٍ أكبر كي يكشف الله لي حقيقة ما حدث. لم أخبر أحدًا بما جرى. كنتُ أصغي بقلبي كلِّه مترقِّبًا أن أسمع ذلك الصوت ثانيةً. وبالفعل، ما إن أغمضتُ عينَيَّ حتّى سمعتُ ذلك الصوت نفسه بمجرّد أن بدأ النعاس يغلبني، وكانت نبرته مطابقةً للمرّة الأولى. 

ففزعتُ وهرعتُ خارجًا أذرع الحقول وأشغل نفسي بالعمل، وبقيتُ يومها صائمًا لم أذق طعامًا. وتكرَّر هذا الأمر فيما بعد مرّاتٍ عديدة، حتّى لم يَعُد يشغل فكري أيُّ شيءٍ آخر سوى كيف أترك العالم وأذهب لأترهَّب. 

وحدث أنّي وجدتُ نفسي ذات ليلةٍ، بصورةٍ أعجوبيَّة، في طريقي إلى هنا – إلى الدير المبارك في الجبل المقدَّس آثوس. وهكذا أتيتُ إلى الدير لأبدأ حياتي الرهبانيّة في كنف والدة الإله.

كانت أوّل ليلةٍ لي في الجبل المقدَّس عاصفةً بالحرب الشيطانيّة. ما إن حلَّ الظلام ودخلتُ إلى قلّايتي في الدير حتّى سمعتُ جلبةً قويّة، أشبه بصخبِ جيشٍ يقتحم المكان ركضًا. وفجأةً اندفعت جماعةٌ من الكائنات الضخمة إلى داخل القلّاية – كانوا بهيئة أناسٍ ولكنّ بَشاعتهم لا توصف وضخامة أشكالهم هائلة. 
انقضُّوا عليَّ وأمسكوا بي بعنف ليطرحوني خارجًا من النافذة. عندها أخذتُ أصرخ ملتجئًا: "يا والدة الإله! يا يسوع المسيح! يا والدة الإله!". 

كنتُ أبكي بحرقة حتّى ابتلَّ جسدي بالعرق من شدّة الفزع. شعرتُ كأنّني اصطدمتُ بالنافذة في غمرة تلك الفوضى، ولم أتوقَّف عن تلاوة قانون الإيمان وصلاة الأبانا وكلّ صلاةٍ أسعفتني بها ذاكرتي. أخيرًا، تركتني تلك الكائنات واختفت، لكنّني كنتُ قد صرتُ حطامًا من شدّة الإعياء والرعب. 

خفتُ أن أعود إلى النوم في فراشي تلك الليلة، إذ ظننتُ أنّهم إن رجعوا فسوف يقتلونني ولن يدعوني أهرب حيًّا. جلستُ على سريري طوال الليل أحدِّق في الظلام، وأحسستُ كما لو أنّ أرواحًا عديدةً تملأ الغرفة من أمامي ومن خلفي. 

ومع ذلك، لم أفقد رباطة جأشي ولا انهارت عزيمتي، فقد بقيَ أملي معقودًا على والدةِ الإله. قلتُ في نفسي: لقد نادتني العذراء بنفسها إلى هذا الطريق، وهي التي أرشدتني إليه، فلماذا الخوف إذًا؟ لن أخاف شيئًا، لأنَّ يَدها تحفظني بلا شكّ.
بعد مدّة، حصل أمرٌ عجيب آخر ليلًا بينما كنتُ خادمًا في كنيسة الدير. سمعتُ دقًّا متواليًا على باب الكنيسة: 

طَق… طَق… طَق! ثمّ تلا ذلك صوتٌ آخر من الخارج وكأنّه يخاطب الطارق: "لِمَ تطرق الباب؟ افتحه ودعنا ندخل". وما هي إلّا لحظاتٌ حتّى اندفع أولئك المردة العمالقة أنفسهم إلى داخل الكنيسة. 

كانت أشكالهم بشعة المنظر وضخمة الحجم على نحوٍ مخيف. أمسكوا بي مجدّدًا وجرُّوني إلى إحدى الشُّرفات العالية وهم يهمُّون بطرحي منها. صرختُ من كلّ قلبي: "يا والدة الإله، يا والدة الإله! أرجوكِ، يا والدة الإله، أغيثيني". 
في تلك اللحظة بالذات شعرْتُ أنّهم عجزوا عن أن يحرِّكوني قيد أنملة، فتركوا جسدي من أيديهم. ثم سمعتُ صوتًا آخر من بعيدٍ يصرخ بهم: "اطرحوه إلى الخارج! لماذا تتركوه هناك؟" 

فصاح أولئك الذين كانوا قد اقتحموا الكنيسة قائلين: "لا نستطيع أن نرميَه، لأنَّ هناك تلك السيّدة، إنَّها السيّدةُ المفيضة الطيب. هي لا تسمح لنا بذلك!" وعندئذٍ استفقتُ من غيبوبتي فزعًا، وقد غمرتني عَبْرةٌ حرّى لا يعلم مداها إلّا الله. 
هرولتُ هابطًا إلى الكنيسة حيث أيقونةُ سيِّدتنا والدةِ الإله المفيضة الطيب العجائبيّة، فقد عرفتُ أنّ خلاص روحي كان بفضل شفاعتها. 

تتمتَّع أيقونةُ والدة الإله المفيضة الطيب هذه بنعمةٍ إلهيّة فائقة، فإن كان الناظر إليها في حالةٍ روحيّة صالحة، يخيّلُ إليه أنَّه يُبصِر مشهدًا سماويًّا بهيًّا، أمَّا إن كانت نفسه مثقلةً بالهموم أو الخطيئة فيراها على هيئة أخرى لا بهاءَ فيها. 
انطرحتُ أمامها ساجدًا، أسكب الدمع متضرِّعًا بامتنان: "يا والدة الإله، أشكركِ جزيل الشكر على نجاتي." وعاد السلام إلى قلبي وزال عنّي ذلك الكابوس بصلواتها.
لم يخطر ببالي قطّ أنّني سأُنتَخَب يومًا رئيسًا لهذا الدير؛ فقد جئتُ إلى الجبل المقدس ناسكًا، ظانًّا أنّني سأقضي حياتي بين القلالي والصوامع. 
ولكنَّ مشيئة الله ومقاصده التي تفوق إدراك البشر هي التي رتَّبت أن أوكِلَتْ إليَّ هذه المسؤوليّة، فانتهيتُ إلى أن أحمل هذه الأمانة بنعمة الله ومراحمه. 

عندما تسلَّمتُ رئاسة الدير، مررتُ بتجارب عديدةٍ جدًّا وضايقتني همومٌ جمَّة. ذلك لأنّني -عن درايةٍ أو بدونها- كنتُ إنسانًا مندفعًا وعفويًّا في طبعي، أظنّ أنّ بإمكاني إصلاح كلّ شيءٍ سريعًا بقوّتي الخاصّة، غير مُدرِكٍ أنّ استعجالي هذا يؤذيني. بلغَت بي المشقَّات حدًّا كدتُ معه أن أيأس، إذ لم أعد أعرف ماذا أفعل. 
أرسلني الآباءُ في بعض المهام إلى مدينة تسالونيكي، وهناك اشتدّت عليَّ التجارب حتّى خَيَّم اليأس على نفسي. 

أذكر أنّني أطفأتُ أنوار الغرفة كلّها وجلستُ على أريكة صغيرة حزينًا كئيبًا، وصرختُ من أعماقي: "أيّها الربُّ يسوع المسيح، أيّتها السيّدةُ الكلّيّة القداسة والدةُ الإله، أيّها القدّيسُ بولس، ما هذا الذي يحدث معي؟ 

يا والدة الإله، أرجوكِ أخرِجيني من هذا المأزق؛ لم أعُد أقوى على الاحتمال! ماذا عساي أن أفعل؟ إن كنتُ أنا المُخطئ، فأريد بأسلوبٍ لائق -من غير أن أترك الدير- أن أتنحَّى عن الرئاسة قليلًا وأعود إلى قلّايتي كما كنتُ سابقًا، أخدمُ إخوتي وأقوم بما أستطيعه بعيدًا من هذه المسؤوليّة." 

في تلك اللحظة، وبينما كنتُ غارقًا في اليأس، سمعتُ صوتًا حلوًا يخاطبني برفق: "لا تحزن بهذه الصورة، اعلم أنَّ الله قد سمح لك بهذه الشدائد كي تتعلَّم الصبر وتتدرَّب عليه قليلًا. وعندما تزول عنك هذه المحن ستُدرك الحكمة من وراء ما جرى." 
وما إن بلغ مسامعي ذلك الصوت العذب حتّى انقشع في الحال ظلامُ الكآبة عن روحي وقلبي، وامتلأتُ سلامًا وانشراحًا. 

فأبصرتُ بوضوحٍ نقصي الذي كنتُ غافلًا عنه: لقد كنتُ قليلًا في طول الأناة، أسابق الوقت في كلّ عملٍ أقوم به، ولم أكن أعرف أنّ تسرُّعي هذا يضرُّني. ها هي سيّدَتنا والدةُ الإله – مرَّةً أخرى – تعلِّمني وتربِّيني، وتجعلني أتدرّب على فضيلة الصبر وطول البال حتّى أتحلَّى بها في حياتي الرهبانيّة.

من أجل ذلك كلِّه، وضعتُ كلَّ محبّتي – بقدر ما أعطاني الربُّ من قوّة رغم ضعفي – في سيِّدتنا والدةِ الإله. وأنا أشهدُ الآن عمليًّا، من واقع حياتي في هذه الشركة المقدّسة، أنّني كلّما ألمَّت بي شدّةٌ أو جرَّبتني تجربة، ما إن ألتجئ إلى العذراء متشفِّعًا وأُسبِّحُ اسمها وأُردِّده حبَّةً تلو الأخرى على مسبحتي قدر استطاعتي، حتّى أعاين العون الإلهيّ يغمرني في الحال، عونًا غزير البركة والرحمة. 
لهذا السبب نعَمَلُ جميعًا بمحبَّةٍ خاصّة نحو والدة الإله، ونكرِّمُها أعظم إكرام – أنا وجميع الآباء والإخوة – لأنّ لكلٍّ منَّا اختباره الحيّ لشفاعة العذراء في حياته، ولأننا جميعًا نرجو بثقةٍ رحمةَ الله الكريم وعونَ سيِّدتنا والدةِ الإله. 

وإنّني أوصي دومًا الآباءَ المبتدئين والشيوخ على السواء بأن نرفع المجد والتسبيح للربِّ الإله الصالح في كل حين، ليلًا ونهارًا بلا انقطاع، سائلين إيّاه أن يدبِّر خلاص نفوسنا ويؤهّلنا للدخول إلى فردوس النعيم. 

وما رويتُ هذه الخبرات عن نفسي باعتباري ذا شأنٍ خاصّ، بل فقط أردتُ أن أشهد لعجائب والدة إلهنا تمجيدًا لاسمها القدّوس وشكرًا لمعونتها التي لا تتركنا. 
نسأل الله أن يؤهّلنا جميعًا لبلوغ فردوسه السماويّ السعيد، آمين.