الضيقات والأحزان والآلام للقدّيس بورفيريوس الرائيّ
الضيقات والأحزان والآلام للقدّيس بورفيريوس الرائيّ[1]

 

  • لا أريدك أن تكون متضايقًا. ألا تعلم إلى أين يفضي بنا الضيق؟ إنّه يسبّب مرض السرطان بالإضافة إلى أمراض أخرى.
هذا ما قاله لي الشيخ وهو يمسك بيدي بحنان أبويّ عندما كنت أجتاز محيطًا من التجارب والضيقات.
 
كثيرًا ما كان يميّز الشيخ بين الحساسيّة الناتجة عن الأنانيّة وبين حساسيّة النفس النبيلة الرقيقة اللطيفة الشفّافة، التي تتّصف بالمحبّة والتضحية والطاعة والصبر والطيبة والصمت المقدّس.ww-copy-copy.jpg
 
 ثمّ أضاف قائلًا:

"لقد أقامنا المسيح معه لكي يملأنا محبّة وفرحًا. المسيح هو نبع فرح نفوسنا وسلامها. الضيق الشديد قد يكون، في كثير من الأحيان، مسبّبًا للخطيئة، والمبالغة والإفراط فيه هو نتيجة عمل شيطانيّ.
 
 الحزن غير المحتمَل يضعف قوّة النفس، ويُدخل الإنسانَ في دوّامة محاربة الأفكار التي تشقيه نفسيًّا وجسديًّا.

عندما لا يكون الضيق بحسب الله، وعندما يتجاوز الحزن حدود سلوك الإنسان الطبيعيّة، يمكنه، عندئذ، أن يقود المرء إلى القنوط واليأس. فالحزن بحسب الله يؤدّي إلى التوبة، فيما الحزن على الأمور العالميّة يؤدّي إلى الموت.
 
بالصلاة الكثيرة والصبر نجابه التجارب والأحزان، محتفظين، على الدوام، بالاعتدال في كلّ شيء، ومتذكّرين المسيح في لحظات ضيقنا لأنّه الوحيد الذي باستطاعته تعزية قلوبنا.
 
الضيق الشديد يخلق اضطرابًا للنفس، ويساهم بسيادة الحزن عليها. الحزن هو مرض نفسيّ؛ فحينما تضغط الأفكارُ الهدّامة والتجارب النفسَ، تحزن ويستحوذ عليها الهمّ والخوف والاضطراب والقلق، وتصل إلى حالة عدم استقرار روحيّ داخليّ، إلى كيان معاند مجادل، إلى قلّة الإيمان وعدمه، إلى انتفاء الاطمئنان، إلى الكسل والإهمال والتهاون.

وعندئذ تضعف قوى النفس وتغرق في السوداويّة ثمّ، شيئًا فشيئًا، تقاد إلى اليأس أو تستسلم إلى أفكارها الهدّامة. كما يمكن للنفس أن تضطرب لوخز الضمير وإدانته لخطاياها، فيزداد، حينئذ، تهيّجها الداخليّ وتعود لا تعرف كيف تجابه الصعوبات والتجارب. السبب، إذًا، داخليّ وليس خارجيًّا.
 
يا أولادي، المسيح هو الواهب الصحّة النفسيّة والروحيّة. المسيح كلّه نور ويوزّع الفرح والابتهاج على الجميع. عندما نكون مع المسيح، نكون داخل النور؛ وعندما نحيا داخل النور، يختفي الظلام ونرى كلّ شيء بوضوح وجلاء ونعيش حقيقةً. فالأهواء والأنانيّة والخطيئة تسبّب الضياع النفسيّ للمرء، غير أنّه بنور المسيح يتحرّر منها ويتخلّص. ومهما اشتدّت وطأة التجارب والأحزان التي نمرّ بها، عندئذ يتوجّب شكر الله عليها وتمجيده، ملتجئين إلى الصلاة، ومتأكّدين أنّ كلّ هذه إنّما هي نِعم وهدايا تفيد خلاصنا.
 
لا ينبغي الابتعاد عن الله أثناء الصعاب، لذلك اطلبوا معونة المسيح، دائمًا، لكي لا يستطيع الشيطان أن يدخل ويربككم ويقودكم إلى الضياع، فالحزن والعصبيّة والأمراض والمشاكل النفسيّة إنّما هي من طبيعته وخاصيّته. لنلتصق بمحبّة قلبيّة صادقة بالمسيح، فقوّته ومحبّته تحلّان كلّ الأمور. اتلوا مزامير داود والابتهالات لكي تتغلّبوا على فخاخ الشيطان.
 
الأمراض النفسيّة
 
عندما لا يوجد تشخيص طبّيّ لأيّة مشلكة عضويّة، فكلّ اضطراب نفسيّ مردّه تأثير شيطانيّ يؤدّي إلى الخطيئة واختلال توازن الأهواء فينا؛ والقدّيس يعقوب الرسول يؤكّد في رسالته أنّ: "كلّ إنسان تكون تجربته باجتذاب شهوته وتملّقها له. ثمّ الشهوة تحبل وتلد الخطيئة والخطيئة إذا تمّت تنتج الموت" (يعقوب 1: 14-15).
 
الكبرياء والأنانيّة يشقيان الإنسان بشكل خاصّ ويبلبلانه ويكدّرانه ويخلقان تشوّشًا في علاقته مع من حوله. لذلك نحن نعيش، اليوم، في عصر يسوده علم النفس واللجوء إلى عيادات أطبّاء الأمراض النفسيّة والعقليّة.
 
ولكن إن تحلّينا بالتواضع والمحبّة لا نعود نشكو من أدنى مشكلة. المتواضع لا يخاف وإن وقع أرضًا، لذلك يبقى هادئًا ساكنًا سلاميًّا رغم ما يتعرّض له، لأنّ من تستأسره محبّة المسيح يجد كلّ الأمور سهلة وحسنة.
 
الكبرياء ومحبّة الذات هما العدوّان الأوّلان للحياة مع المسيح، وأذاهما يهدم بناء الذهن الروحيّ، ويهيّج الاضطراب ويثير القلق النفسيّ، وينجح، أخيرًا، في بناء سور بين النفس والمسيح. وعندما يعيش الإنسان حياة خالية من المسيح وبعيدة عنه، فإمّا أن يفقد إنسانيّته أو يتشيطن، وهكذا تنشأ داخله الجراحات النفسيّة، التي يسمّها الأطبّاء أمراضًا نفسيّة. ولكن بالجهاد الروحيّ يستطيع المرء التحرّر منها، لأنّ  القداسة تغيّره وتخلّصه؛ وعندما تتقدّس النفس يتقدّس، أيضًا، الجسد.
 
يعيش أشخاص المجتمع المعاصر المترفّه وكأنّهم لا يملكون شيئًا فيما هم يملكون كلّ شيء لكونهم يفتقدون للمسيح في داخلهم. لذلك نلاحظ كيف تكتظّ عيادات أطبّاء الأعصاب والأطبّاء النفسيّين والعقليّين، وكيف أصبحت الأدوية المهدّئة بمثابة حبّات الكراميل.
 
لقد أخرج الناس من قلوبهم المحبّة الإلهيّة وسلام المسيح وفرحه، وسدّوا نوافذ الفردوس وكلّ مكان مقدّس في نفوسهم، فوصلوا إلى حياة العزلة والحزن والسوء والكراهية والخصومة والارتباك والتخبّط، فصدق فيهم قول سفر الرؤيا: "لك اسم أنّك حيّ فيما أنت ميت" (رؤيا: 3: 1).
 
ولكن، إن قرّرنا أن نفتح باب قلبنا لكي يلجه المسيح ويستقرّ في زواياه وينير ذهننا، فعندئذ، تختفي كلّ صعوبة وحزن وأسًى ومرض، ولا نعود بحاجة إلى العقاقير والأدوية.
 
 

[1] عن اليونانيّة من كتاب: ~H Vagapw/sa kardi.a) :Ekdoseij ~Iera/j Gunaikei.aj koinobiakh/j o`si.ou Vefrai.m tou/ Su.rou & Kontariw.tissa & Kateri.nhj)