الكنيسة، جسد المسيح للأب إمليانوس

الكنيسة، جسد المسيح
للأب إمليانوس 
[1]

تخيّلوا ملكاً جالساً على عرشه، لابساً حلّته القرمزيّة وواضعاً تاجاً على رأسه. تنتصب حاشيته أمامه عند قدميه وهو يتشاور معهم ويتباحث في موضوع مهمّ جدّاً، وتبرز على وجوه الحاضرين علامات الرزانة والجديّة أمام ما يدور من نقاش. لا بدّ لأي واحد منّا وهو ينظر إلى الملك أن ينتابه إحساسٌ من الذهول والخوف معاً. 

يقف الملك فجأةً في لحظة حاسمة، قاطعاً الحوار، لرؤيته الأمير الصغير يدخل قاعة الاجتماع، وبينما هو يتقدّم تجاه أبيه يتعثّر ويسقط أرضاً وتناله الجروح فيبكي ويستغيث. يترك الملك الذي يوحي للحاضرين بالجلال والمهابة عرشه ويسرع متضايقاً ومتعطفاً نحو ابنه، ينحني عليه ويأخذه بين ذراعيه ويضمّه إليه لكي يُهدّئ من روعه وألمه. فيشعر الطفل للحال بمحبّة والده ويتوقّف عن البكاء. هذه هي صورة الله الأب. تُصوّر لناهذه القصّة محبّته تجاه أبنائه، وعنايته الأبويّة التي يُحيطهم بها. 

لقد رأى اللهُ الإنسانَ الذي جبله بيديه، وجعله سيّداً على الخليقة، قد سقط في حمأة الخطيئة، وشاهده يخرج من الفردوس. لم يتحمّل المسيحُ، كلمة الله، رؤيةَ الإنسان الساقط. فترك عرشه الملوكيّ، وتخلّى عن الحضن الأبويّ، ونزل إلى الأرض. اتّحد الله، أي الطبيعة الإلهيّة، بالطبيعة البشريّة، فصار الله والإنسان واحداً. لم يحتضن اللهُ الإنسانَ، فقط، إنّما طعّمه فيه، تشبّه به. لبس الله جسدنا، صار الله إنساناً! وصار الإنسان حاملًا الإله! صار إلهاً! لقد قبض المسيح على الطبيعة البشريّة، وعند صعوده رفع الإنسان الخاطئ إلى السماوات. أصبح الله والإنسان جسداً واحداً، شجرة واحدة، جذر واحد. LRTheProdigalSon_620x-(1).jpeg

إنْ طعمّنا غصناً صغيراً في شجرة ما، فيصير واحداً مع الشجرة. هكذا نصير نحن أيضاً مع جسد المسيح. كلّ واحد منّا يمكنه أن يُطعّم في الشجرة، في الأصل، في جسد المسيح، ولا يصير سوى واحداً معه. يتحقق هذا الأمر بالمعمودية عندما نرتّل: "أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبستم"، أي لقد لبسنا الألوهيّة واقترنا بالله، أصبحنا إلهاً! كلّ إنسان معمّد يصير جسداً واحداً مع المسيح، وبالتالي يُصبح عضواً في القطيع الواحد حيث الرأس هو المسيح. جعل كلّ واحد منّا عضواً في جسده الذي هو الكنيسة. فتصير الكنيسة موضوع بشارتنا.

يقول الكتاب المُقدّس، كلّ ما خلقه الله، خُلق لأجل الكنيسة، لذا، يفوق مجدها مجد السماوات، بل لا نهاية لمجدها، لأنّها جسد المسيح نفسه. عندما ننضمّ إلى الكنيسة بالمعموديّة، نصير مسحاء. الويل لنا إن قلنا إنّنا مسيحيّون أرثوذكسيّون، وننتمي إلى الكنيسة الجامعة، من دون أن نعرف ماهيّة الكنيسة.

أتذكّر كاهناً سبق وشرح لرعيّته عن حياة الكنيسة، وكابد الكثير من المشاقّ لكي يجعل أبناء رعيّته يشتركون فيها. أخيراً، استطاع، بطول أناته وصبره، أن يوضّح الأمور لأبنائه الروحيّين، ويُنيرهم بأقواله الإلهيّة. ففي أحد الأيّام، كان هذا الكاهن يقيم الخدمة الإلهيّة في الكنيسة كالعادة، وفي وقت ما، نزع نظارته، وأخذ ينظر حوله فلم يجد من الحاضرين سوى بعض الأشخاص المشاركين في الصلاة موزَّعين هنا وهناك. لم يجترئ، أبداً، أن يُدقّق في عددهم حتّى لا يقع في اليأس. تساءل ما الذي يمكن أن يعمله حتّى يجلب الناس إلى الكنيسة؟ وبعد تفكير مليّ، أعلن في الأحد التالي ما يلي: "سوف نعرض هذا المساء مسألة فريدة هامّة، ونتكلّم عن أكبر فضيحة لم يسبق أن وُجد مثلها وسط العائلات المعروفة جدّاً". 

مذاك لم يعد يُشغل كلّ عائلات المدينة اهتمام آخر سوى أن يعرفوا ما هي هذه الفضيحة، ومن هي تلك العائلة التي يقصدها الكاهن؟ هل يقصد الحاكم؟ أم المعنيّ هو المختار؟ أم القائد؟ أم... وفي المساء، امتلأت الكنيسة من الحاضرين، ولكنّ الأشخاص الذين سبق وسمعوا عظة الإنجيل كانوا قليلين. أتى هؤلاء  لكي يعرفوا من الذي أحدث تلك الفضيحة التي يتكلّم عنها الكاهن. 

واستهلّ الكاهن كلامه بقوله: "سامحوني على هذه الحجّة الترفيهيّة، لأنّه من جهتي لست مضطرًّا لاستعمال خدعة كهذه. إنّكم ترغبون، لا شكّ، في سماع كلمة الله، لذلك أنتم أتيتم إلى هنا. ولاحظت أنّكم في كلّ أسبوع تزدادون عدداً. إنّني لمسرورٌ جدّاً بأنكم جئتم لتسمعوني أكلّمكم عن موضوع أساس وبالغ الأهمّيّة ألا وهو موضوع الكنيسة.

من هنا نفهم ما قاله القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، كوكب الكنيسة، لأحد الأشخاص الذين يمقتونها ويضطهدونها: "لا  تبتعد عن الكنيسة، لأنّه لا يوجد شيء آخر أقوى منها. الكنيسة هي رجاؤك وخلاصك وملجأك. الكنيسة هي أعلى من السماوات وأوسع من الأرض". الكنيسة أكثر ثباتاً من الجبال العالية التي تُحيطنا. إنّ عظمتها، بهاءها، ومجدها، مساوون لعظمة وبهاء المسيح ومجده.

ولقد قال أحد الآباء الرسوليّين: "لقد أعدّ الله العالم من أجل الكنيسة". فقد صنعها ثابتة جدّاً  وطيدةً حتّى وإن سقطت عليها كلّ قوّات الظلام فلن تستطيع زعزعتها. سوف يشيخ العالم ويختفي كلّ شيء، وستتساقط النجوم مثل أوراق الخريف، وأمّا الكنيسة، فتملك شباباً دائم النضارة، لا يذبل. تتجدّد، باستمرار، بنعمة الروح القدس، وعندما يصير، أخيراً، كلّ شيء في العدم سوف تشعّ هي وحدها بكلّ لمعانها وضيائها في السماوات، متوّجة بإكليل الألوهيّة، وستملأ الكون من حضورها ومجدها.

([1] مقتطفات من عظة ألقاها الأب إميليانوس في كنيسة  القدّيس نيقولاوس في تريكالا ( منطقة الميتيورا)، في 6 كانون الأوّل 1970 يوم عيده.)