الله غير موجود، لم ألتقِ به [1]
إنّ غالبيّة روّاد الفضاء، تقريبًا، الذين جابوا الأمداء الكونيّة غُلبوا، في نهاية المطاف، واعترفوا بالإيمان بالله، مشيدين بعظمة خالق هذا الكون. اثنان، فقط، من هؤلاء غاغارين وتيتوف الروسيّان لم يشعرا بمثل هذا، لا سيّما الأخير منهما الذي أعلن بجسارة وسخرية: "الله غير موجود، لم ألتقِ به".
كثيرًا ما تردّد هذا القول في تاريخ البشريّة وما يزال حتّى اليوم يتردّد هنا وثمّة، حتّى من المؤمنين أنفسهم، وبخاصّة في طريقة حياتهم إن كانت تجاه أنفسهم أو تجاه الآخرين. فكلّ لامبالاة حيال ما يتعلّق بأمور الله أو جهل لتعاليمه أو رفض لوصاياه، ألا يماثل هذا قولَ تيتوف رائد الفضاء؟ وبناء عليه، لا يجب أن تزعجنا هذه الكلمات، ولا أن تثير إيماننا واستغرابنا لا سيّما إن دقّقنا في كيفيّة تفكيرنا وتصرّفاتنا.
محبّة الله للبشريّة عظيمة جدًّا لا تقدّر ولا توصف، إذ كم وكم من محاولات قام بها الله لملاقاتنا. أحنى السموات ونزل إلى أرضنا. تجسّد وصار بشرًا مثلنا، لماذا؟ بغية ملاقاتنا. ففي كلّ مرّة نعيّد فيها لعيد الميلاد المجيد، نعيّد، بالضبط، لهذا اللقاء الفريد والأعظم من كلّ لقاء بشريّ حصل على مرّ الأيّام والسنين، إنّه لقاء الله الخالق مع الإنسان المخلوق، والجابل مع آدم المجبول. ولذلك، فكلّ عيد ميلاد هو، بالحقيقة، لقاء دائم لا ينتهي مع الله المتجسّد، لأنّه يولد كلّ يوم، إذا شئناه كذلك، في قلوبنا وتفكيرنا، في عائلاتنا، في مجتمعنا.
الله دائم التجدّد، وميلاده يتجدّد كلّ يوم، ولقاؤنا معه يتجدّد كلّ يوم. ولكن، ويا للأسف الشديد، فإنّ الكثيرين منّا لا يلاحظون هذا اللقاء ولا يشعرون به، ولا يدركون معناه العميق. ولكن ما الغرابة في هذا، والتاريخ يعيد نفسه وإن كان بصورة أخرى؛ ألم يأتِ الابن المتجسّد إلى أرضنا وعاش مع شعبه، وشعبه لم يعرفه ولم يلاحظه؟ لقد كان يتحرّك أمامهم الإله-الإنسان؛ كانوا يرونه وهو يجترح لهم العجائب والمعجزات الباهرة، مخفِّفًا أوجاعهم ومقيمًا أمواتهم، كثّر لهم الخبز والسمك وأطعمهم، كلّمهم بأقوال الحياة، ولكنّهم، سدّوا آذانهم عن سماعه، وأغمضوا عيونهم عن معرفته. لم يكونوا معه، بل كانوا ضدّه، ولذلك لم يفهموا منه شيئًا. الأمر الوحيد الذي وعوه كان كيف سيحكمون عليه ويخرجونه من بينهم، وهو الأمر الذي أتمّوه أخيرًا على الصليب.
الله دائمًا معنا. إنّه قربنا ومستعدّ، أبدًا، لملاقاتنا، بل هو لا يملّ من قرع بابنا بلطف فيما نحن لاهون عنه، بل وغير مستعدّين ولا لخطوة واحدة، ولو جاءت صغيرة، نخطوها إليه، نسعى لملاقاته الضروريّة جدًّا لحياتنا. لم يُسمع من قبل بأن ضحّى أب بابن له في سبيل خير ابن آخر، بينما ضحّى الله بابنه من أجل خلاص كلّ البشريّة، فكيف لنا، بعد ذلك أن نعلن: إنّه غير موجود، لم نلتقِ به!!
من هنا، صار من اللّازم أن نتساءل: ما الذي يمنعنا ويعيقنا من ملاقاة الله: هل هو عمانا الاختياريّ؟ أم هي بلادتنا وعدم شعورنا بحضوره وإدراكنا له؟ أم هو غياب الإيمان به؟ أهي عدم رغبتنا في الخضوع له؟ أو لعلّه ابتعادنا عن الحياة المقدّسة وعدم تذوّق نِعَم الصلاة السرّيّة وحلاوتها؟ أهو تغافلنا عن قيمة الأسرار المقدّسة الكنسيّة وعظم سموّها؟
نحن نستصعب الدخول في عشرة مع الله وتكوين علاقة جيّدة معه لا بل ننسى، أحيانًا، وجوده وعمله وتدخّله في حياتنا كلّها. لذلك، فبقدر ما يكون الإنسان جشعًا لا تشبعه الشهوات والغرائز، واقعًا تحت وطأة متع الحياة وتأثيرها، وبقدر ما يستسلم لأهوائه المهينة، مقترفًا أنواع الخطايا، إمّا بحكم العادة أو منقادًا لظروف معيّنة، بقدر ما يختفي لديه الميل نحو التوبة ومصالحة الله، وبالتالي يبعد ذاته عن كلّ إمكانيّة قد تنشأ لإقامة علاقة معه، أي لقائه.
أين يمكننا لقاء الله؟ لقاؤه حاصل في كلّ لحظة، وبخاصّة:
1. عندما نتصدّى للخطيئة ومثيراتها.
2. عندما نتوب توبة صادقة عمّا اقترافناه من ذنوب، بحيث لا نعود إلى ارتكابها.
3. عندما نمحو كلّ ميل للخطيئة من ذهننا، ونبتعد عن مسبّباتها.
4. عندما نصلّي.
5. عندما ندوام على حضور القدّاس الإلهيّ.
6. عندما نساهم الأسرار المقدّسة: الاعتراف، المناولة..
7. عندما نمدّ يد العون لقريبنا، ونخدمه لأنّه به نخدم الله نفسه (محبّين وعطوفين تجاهه، نعامله بلطف، نعزّي الحزانى، نعطي المحتاجين.. إنّهم كلّهم ثمينون، دم المخلّص أريق من أجلهم، إنّهم أعضاء في جسد المسيح).
8. عندما نغفر من كلّ قلوبنا لمن أساء إلينا.
9. عندما نجاهد روحيًّا للتغلّب على ضعفاتنا التي تشوّة صورة الله فينا.
10. عندما نحمل صليبنا بشكر (ألم، فقر، مرض..).
11. عندما نقرأ الكتاب المقدّس بخشوع وتقوى متأمّلين بكلمات الربّ يسوع الموجَّهة إلينا.
12. عندما نتصالح مع مبغضينا.
13. عندما نطالع سير القدّيسين ونرى عمل الله في حياتهم.
يشدّد الرسول بولس بشكل مميّز في رسالته إلى العبرانيّين قائلًا: "اقتفوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لا يعاين الربَّ أحد" (عبرانيّين 12: 14). نعم، القداسة هي التي تخوّلنا لرؤية الربّ وليس أمر آخر. لذلك، فالقدّيسون وحدهم يرونه كموسى النبيّ، مثلًا، الذي يلقَّب بمعاين الله، لأنّه رأى الربّ كما يخبرنا كتاب العهد القديم. أمّا نحن، كبشر واقعين تحت تأثير الأهواء ولم نتحرّر منها بعد نظير القدّيسين، لا يمكننا معاينته بشكل ملموس. فإن كنت تؤمن بعمق ومن كلّ نفسك، سوف تشعر بحضور الله بشكل قويّ، وتنجلي أمامك الحقائق الإلهيّة بوضوح تامّ. لا يجب أن ننسى بأنّ الله روح وليس نجمًا في إحدى المجرّات الفضائيّة نستطيع معاينته عند تحليقنا في الأمداء الواسعة، ولا عندما نخرج من حيّز الغلاف الجويّ سوف نلاقيه في نقطة ما. الربّ هو هناك وهنا وفي كلّ مكان، لأنّه خالق الكلّ، والمالئ الكلّ، والكائن قبل الكلّ.
إذًا، إن أردنا ملاقاة الله، إن أردنا أن نراه مولودًا داخلنا، علينا بتغيير حياتنا ورفضنا للخطيئة والتصدّي لها واتّباع الحياة الروحيّة والأسراريّة، مبرهنين عن ميلنا الواضح، ولو كان ضئيلًا، نحو تطبيق وصاياه. بمعنى آخر ألّا تجذبنا اهتمامات الحياة الدنيويّة، أي أن نموت عن إنساننا العتيق لنحيا في الجديد بالمسيح يسوع، إذ إنّنا غالبًا ما نعمل على تكييف وصايا المسيح مع شروط حياة هذا العالم.
ويا للفرح الذي سوف يغمرنا، عندئذ، إذ لمجرّد قيامنا بالخطوة الأولى للقياه، سوف نشعر، للحال، بحضرته القدّوسة. جرّبوا واختبروا، وسوف تتأكّدون من الآية القائلة: "تعال وانظر".
[1] عن النشرة اليونانيّة Ta. kri.na العدد 368 لشهر كانون الثاني والعام 2018