الأحد 9 حزيران 2024

الأحد 9 حزيران 2024

06 حزيران 2024
الأحد 9 حزيران 2024
العدد 23
أحد الأعمى
اللحن الخامس، الإيوثينا الثامنة


أعياد الأسبوع:

9: تذكار القدّيس كيرللُّس رئيس أساقفة الإسكندريّة، 10: الشهيدين ألكسندروس وأنطونينا، 11: تذكار الرسولين برثلماوس أحد الـ 12 وبرنابا أحد الـ 70، وتذكار أيقونة بواجب الاستئهال. 12: تذكار البارّين أنوفريوس المصريّ وبطرس الآثوسيّ، 13: خميس الصعود، الشهيدة أكيلينا، 14: النبيّ أليشع، القدّيس مثوديوس رئيس أساقفة القسطنطينيّة، 15: تذكار النبيّ عاموس، البارّ إيرونيمُس.

قَتلُ الرّوح

يَنتقل الإنسانُ من الظلمةِ إلى النور من خلال العلاقة الشخصيّة مع الربّ ومعرفة كلمته، هذه تأتي من التربية العائليّة، الكنسيّة، المدرسيّة، الاجتماعيّة، والثقافيّة ... ولكنّ خطر العودة إلى ظلمة الجهل يكمن في تلك العناصر نفسها، إذ "إنَّ النُورَ قد جاءَ إلى العالم وأحَبَّ الناسُ الظلمةَ أكثر من النور لأنَّ أعمالَهم كانت شرّيرة" (يوحنا 3: 19). عدم إرادة التغيير نحو الأكمَل والخروج من بيئة الأعراف المتوارثة والغريبة عن الحقّ، تضع الإنسانَ في عزلةٍ عن نعمة الروح القدس، وعن التفاعل مع الرّوح المحيي، فيَنطَفِئ كيانُه تدريجيًّا ويتحجّر قَلبه.

حين يَغلِب الإنسان ضعفه، يغلب بقوّة الذي غَلَب الموت، وأقامَه معه، وأعطاه سلطانًا أن يَحيا في العالم بدون خوف؛ أن يَنظُر إلى الآخَر ليَرى فيه الناهِضَ من بين الأموات، فلا يَعود بعد عبدًا للخوف فيتسلّط عليه مُكبِّلًا نَفْسَه بسلاسِلَ خانِقة. الموتُ حاصِلٌ لا محالَ، لأنّ الجَسَد "ترابٌ وإلى التُرابِ يعود" (تكوين 3: 19)، وأما الخوف منه فهو يَقتل الرّوح وكُلّ ما ينبثِق من الحياة من أمل، ورجاء؛ فيَفتُر الإيمان ومعه التوبة وإرادة التغيير نحو القداسة.

من هُنا نفهم لماذا باتَ العالَم هذا المكان الغريب عن الله، وإن كانت الشعائر الدينيّة تُمارَس في كلّ مَكانٍ وبكلّ الأشكال. ولكنّ "الربّ يعمَل" (يوحنا 5: 17)، وينتظر مِنّا أن نَعمَل مَعه لأنّ "الحصادَ كثيرٌ والفَعَلة قليلون" (متى 9: 37). كلمَته لنا "ثِقوا" هي فِعلُ أمرٍ مِنه، يَحُثّنا بِه على الإيمان بأنّ "وعده صادق" (رومية 4: 21): فالملكوتُ الكامِنُ في داخِلنا يَربطنا بالآخر الذي يَعمَل على ملكوته الداخليّ، ويجعلنا أبناءً للمَلِك الوحيد، فنصبح جسدًا واحِدًا و"نتقوّى بالنعمة" (2 تيموثاوس 2: 1).

بالتالي علينا أن نَصمُت عند مُعاينة عَظَمَة أعماله في حياتنا، أن نُبارك شاكرين لو مَهما عَلَت الأصوات المشكّكة، ألّا نخاف من الخروج نحوه تاركين مفاهيم العالم، تلك البعيدة عن تعاليم الربّ وكلمات الآباء القدّيسين الذين عاشوها وتقدّسوا. وأما إذا بقي الشَكُّ سيّدًا، فما لنا سبيلٌ إلّا العودة بتواضع نحو القائل: "من كان عطشانًا فَليَأتِ إلَيَّ ويَشرَب"، فتنتعش أرواحنا وتحيا إلى الأبد.
                        
طروباريَّة القيامة باللَّحن الخَامِس

لنسبِّحْ نحن المؤمنينَ ونسجُدْ للكلمة الـمُساوي للآبِ والرُّوح في الأزليَّة وعدمِ الابتداء، المولودِ من العذراء لخلاصِنا، لأنَّه سُرَّ بالجسد أن يَعْلُوَ على الصَّليبِ ويحتَمِلَ الموت، ويُنْهِضَ الموتى بقيامتِهِ المجيدة.
               
قنداق الفصح باللَّحن الثَّامِن

وَلَئِنْ كنتَ نزلتَ إلى قبرٍ يا من لا يموت، إلَّا أَنَّكَ دَرَسْتَ قوَّةَ الججيم، وقُمْتَ غالِبًا أيُّها المسيحُ الإله. وللنِّسوةِ حاملاتِ الطِّيب قُلتَ ٱفْرَحْنَ، ووهبتَ رُسُلَكَ السَّلام، يا مانِحَ الواقِعين القِيام.
 
الرسالة:
أع 16: 16-34
أنتَ يا ربُّ تَحْفَظُنا وَتَسْتُرُنا في هذا الجيل   
خَلِّصْنِي يا ربُّ فإنَّ البَارَّ قَدْ فَنِي


     في تلك الأيّام، فيما نحن الرُّسُّلَ مُنْطَلِقُونَ إلى الصَّلاةِ، ٱسْتَقْبَلَتْنَا جاريةٌ بها روحُ عِرافَةٍ، وكانت تُكْسِبُ موالِيَهَا كسبًا جزيلًا بعرافتها. فطفقت تمشي في إِثْرِ بولسَ وإِثْرِنَا وتصيحُ قائلة: هؤلاء الرِّجال هم عبيدُ الله العَلِيِّ وهم يُبَشِّرونَكُم بطريق الخلاص. وصنعَتْ ذلك أيَّامًا كثيرة، فتضجَّرَ بولسُ والتَفَتَ إلى الرُّوح وقال: إنِّي آمُرُكَ باسم يسوعَ المسيح أن تخرجَ منها، فخرج في تلك السَّاعة. فلمَّا رأى موالِيها أنَّه قد خرج رجاءُ مَكْسَبِهِم قبضوا على بولسَ وسيلا وجرُّوهُما إلى السُّوق عند الحُكَّام، وقدّموهما إلى الوُلاةِ قائِلِين: إنَّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يُبَلْبِلانِ مدينَتَنا وهما يهودِيَّان، وينادِيَان بعادَاتٍ لا يجوزُ لنا قَبُولُها ولا العملُ بها إذ نحن رومانيُّون. فقام عليهما الجمعُ معًا، ومزَّق الوُلاةُ ثيابَهُما وأمروا أن يُضْرَبا بالعِصِيِّ. ولـمَّا أَثْخَنوهُما بالجراح أَلقَوهُمَا في السِّجن وأَوْصَوا السَّجَّانَ بأن يحرُسَهُما بِضَبْطٍ. وهو، إذ أُوصِيَ بمثل تلك الوصيَّة، أَلقاهُما في السِّجن الدَّاخليِّ وضَبَطَ أرجُلَهُما في الـمِقْطَرَة. وعند نصف الليل كان بولسُ وسيلا يصلِّيان ويسبِّحان اللهَ والمحبوسون يسمعونَهُما. فحدثَ بغتَةً زلزلةٌ عظيمةٌ حتَّى تزعزعتْ أُسُسُ السِّجن، فٱنْفَتَحَتْ في الحال الأبوابُ كلُّها وانْفَكَّتْ قيودُ الجميع. فلمَّا اسْتَيْقَظَ السَّجّان ورأى أبوابَ السِّجْنِ أَنَّهَا مفتوحةٌ، اسْتَلَّ السَّيفَ وهَمَّ أن يقتُلَ نفسَهُ لِظَنّهِ أَنَّ المحبوسينَ قد هَرَبوا. فناداهُ بولسُ بصوتٍ عَالٍ قائِلًا: لا تعمَلْ بنفسِكَ سُوءًا، فإِنّا جميعَنا هَهُنَا. فطلبَ مصباحًا ووثَبَ إلى داخلٍ وخَرَّ لبولسَ وسيلا وهو مُرْتَعِدٌ، ثمَّ خرجَ بهما وقالَ: يا سَيِّدَيَّ، ماذا ينبغي لي أَنْ أَصْنَعَ لكي أَخْلُصَ؟ فقالا: آمِنْ بالرَّبِّ يسوعَ المسيحِ فَتَخْلصَ أنتَ وأهلُ بيتِك. وكلّمَاهُ هو وجميعَ مَنْ في بيتِهِ بكلمةِ الرَّبِّ، فَأَخَذَهُما في تلكَ السَّاعةِ من اللَّيْلِ وغسلَ جراحَهُمَا واعْتَمَدَ من وقتِهِ هو وذووهُ أَجْمَعون. ثمَّ أَصْعَدَهُما إلى بيتِه وقدَّم لهما مائدةً وابْتَهَجَ مع جميعِ أهلِ بيتِه إذ كانَ قد آمَنَ بالله.
 
الإنجيل: يو 9: 1-38

في ذلك الزَّمان، فيما يسوعُ مُجْتَازٌ رأى إنسانًا أَعْمَى منذ مَوْلِدِه، فسألَهُ تلاميذُه قائِلِين: يا رَبُّ، مَن أَخْطَأَ أهذا أَمْ أبواهُ حتَّى وُلِدَ أعمَى؟ أجاب يسوعُ: لا هذا أخطأَ ولا أبواه، لكن لتظهَرَ أعمالُ اللهِ فيه. ينبغي لي أنْ أعملَ أعمالَ الَّذي أرسلَنِي ما دامَ نهارٌ، يأتي ليلٌ حين لا يستطيع أحدٌ أن يعمل. ما دُمْتُ في العالَمِ فأنا نورُ العالَم. قالَ هذا وتَفَلَ على الأرض وصنع من تَفْلَتِهِ طِينًا وطَلَى بالطِّين عَيْنَيِ الأعمى وقال له: اذْهَبْ واغْتَسِلْ في بِرْكَةِ سِلْوَام (الَّذي تفسيرُهُ الـمُرْسَلُ)، فمضى واغْتَسَلَ وعَادَ بَصِيرًا. فالجيرانُ والَّذينَ كانوا يَرَوْنَهُ من قَبْلُ أنَّه أعمى قالوا: أليسَ هذا هو الَّذي كان يجلِسُ ويَسْتَعْطِي؟ فقالَ بعضُهُم: هذا هو، وآخَرونَ قالوا: إنَّه يُشْبِهُهُ. وأمَّا هو فكان يقول: إِنِّي أنا هو. فقالوا له: كيف انْفَتَحَتْ عيناك؟ أجاب ذلك وقال: إنسانٌ يُقال له يسوع صنع طينًا وطلى عينيَّ وقال لي اذْهَبْ إلى بِرْكَةِ سِلْوَامَ واغْتَسِلْ، فمضيتُ واغْتَسَلْتُ فأبصرتُ. فقالوا له: أين ذاك؟ فقال لهم: لا أعلم. فأتَوا به، أي بالَّذي كان قبلًا أعمى، إلى الفَرِّيسيِّين. وكان حين صنعَ يسوعُ الطِّينَ وفتح عينَيْهِ يومُ سبت. فسأَلَهُ الفَرِّيسيُّون أيضًا كيف أَبْصَرَ، فقال لهم: جعلَ على عينَـيَّ طينًا ثمَّ اغتسَلْتُ فأنا الآن أُبْصِر. فقال قومٌ من الفَرِّيسيِّين: هذا الإنسانُ ليس من الله لأنَّه لا يحفَظُ السَّبت. آخَرون قالوا: كيف يقدِرُ إنسانٌ خاطِىءٌ أن يعملَ مثلَ هذه الآيات؟ فوقعَ بينهم شِقَاقٌ. فقالوا أيضًا للأعمى: ماذا تقول أنتَ عنه من حيثُ إِنَّه فتحَ عينَيْكَ؟ فقال: إِنَّه نبيٌّ. ولم يصدِّقِ اليهودُ عنه أنَّه كان أعمَى فأبصَرَ حتَّى دَعَوْا أَبَوَيِ الَّذي أبصرَ وسأَلُوهُما قائِلِينَ: أهذا هو ابنُكُمَا الَّذي تقولان إنَّه وُلِدَ أَعْمَى، فكيف أبصرَ الآن؟ أجابهم أبواه وقالا: نحن نعلمُ أنَّ هذا وَلَدُنا وأنَّه وُلِدَ أعمَى، وأمَّا كيف أبصرَ الآن فلا نَعْلَمُ، أو مَنْ فتحَ عينَيْه فنحن لا نعلَمُ، هو كامِلُ السِّنِّ فاسْأَلُوهُ فهو يتكلَّمُ عن نفسه. قالَ أبواه هذا لأنَّهُمَا كانا يخافان من اليهود لأنَّ اليهودَ كانوا قد تعاهَدُوا أنَّهُ إِنِ اعتَرَفَ أحَدٌ بأنَّهُ المسيحُ يُخرَجُ من المجمع. فلذلك قال أبواه هو كامِلُ السِّنِّ فاسألوه. فدعَوا ثانِيَةً الإنسانَ الَّذي كان أعمَى وقالوا له: أَعْطِ مجدًا لله فإنَّا نعلَمُ أنَّ هذا الإنسانَ خاطِئ. فأجابَ ذلك وقال: أَخَاطِئٌ هو لا أعلم، إنَّما أعلم شيئًا واحِدًا، أَنِّي كنتُ أعمَى والآن أنا أُبْصِرُ. فقالوا له أيضًا: ماذا صنع بك؟ كيف فتح عينَيك؟ أجابهم: قد أَخْبَرْتُكُم فلم تسمَعُوا، فماذا تريدون أن تسمَعُوا أيضًا؟ أَلَعَلَّكُم أنتم أيضًا تريدونَ أن تصيروا له تلاميذَ؟ فَشَتَمُوهُ وقالوا له: أنتَ تلميذُ ذاك. وأمَّا نحن فإِنَّا تلاميذُ موسى، ونحن نعلم أنَّ اللهَ قد كلَّمَ موسى. فأمَّا هذا فلا نعلم مِن أين هو. أجابَ الرَّجلُ وقال لهم: إنَّ في هذا عَجَبًا أَنَّكُم ما تعلَمُونَ من أين هو وقد فتح عينَيَّ، ونحن نعلمُ أنَّ اللهَ لا يسمَعُ للخَطَأَة، ولكنْ إذا أَحَدٌ ٱتَّقَى اللهَ وعَمِلَ مشيئَتَهُ فله يستجيب. منذ الدَّهرِ لم يُسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا فتحَ عينَي مولودٍ أعمى. فلو لم يَكُنْ هذا من الله لم يَقْدِرْ أن يفعلَ شيئًا. أجابوه وقالوا له: إِنَّكَ في الخطايا قد وُلِدْتَ بجُملَتِكَ، أَفَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا؟ فأَخْرَجُوهُ خارِجًا. وسَمِعَ يسوعُ أَنَّهُم أَخْرَجُوهُ خارِجًا، فَوَجَدَهُ وقال له: أَتُؤْمِنُ أَنْتَ بابْنِ الله؟ فأجابَ ذاك وقالَ: فَمَنْ هو يا سَيِّدُ لأُؤْمِنَ به؟ فقال له يسوعَ: قد رَأَيْتَهُ، والَّذي يتكلَّمُ معكَ هوَ هُو. فقال: قد آمَنْتُ يا رَبُّ وسَجَدَ له.

في الإنجيل

في القراءة الإنجيليّة في أحد الأعمى كثافة مميّزة من الأسئلة اللاهوتيّة والوجوديّة أجاب الربّ عنها. في بداية النصّ نقرأ التساؤل حول إن كان الأعمى قد أخطأ أو والداه ويجيب الرب أن العمى صار ليظهر مجد الله. وذروة هذه الأسئلة يرِد في نهاية القراءة، حيث يقول الأعمى للمسيح: "ومن هو ابن الله؟" فيجيب الرب: "قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ!"

بالنسبة إلى الذين يبصرون، في أوّل اجتماع لهم بشخص ما يرون ذاك الشخص. وهذا يجعل المعجزة مضاعفة بالنسبة إلى الأعمى الذي أبصر: المعجزة الأولى هي أنّه إذ لمسته يد المسيح الواهبة الحياة، رأى فجأة، وهو لم يسبق له أن رأى شيئًا في العالم من قبل! والمعجزة الثانية أنّ أوّل من رآه كان ربَّه وإلهَه المسيح ابن الإنسان. رأى هذا الرجل اللهَ في ملامح ذاك الذي كان الله وقد صار ابن الإنسان.

يرِد في إحدى قطع هذا الأحد: "لما لم يجد هذا الرجل مَن يظهر له رحمته، فإنّ ابن مريم، الله نفسه، انحنى ولبّى حاجته". فهذا الرجل لم يجد إنسانًا آخرَ يرحم ويترأّف ويهتمّ، لذا نزل الله إليه. نحن نعيش الآن في وقت آخر نعيش في الوقت الذي أصبح فيه الله حقًّا إنسانًا في وسطنا، وأكثر من هذا: لقد جعلنا أعضاءً حيّة في جسده، حضورًا متجسّدًا ملموسًا لتجسّده، هياكل للروح، وأماكن للحضور الإلهيّ.

الآن، ينبغي أن يجد كلُّ محتاج في كلّ واحد منا إنسانًا مندفعًا إلى الرحمة والتفهّم، مدفوعًا من الله الذي صار إنسانًا. وفي الوقت نفسه، عند لقائنا إيّاه، يجب أن يتمكن هذا الإنسان من رؤية محبّة الله في أعيننا وإدراك عمل المحبّة الإلهيّة الفاعل والإبداعيّ والخلّاق في أقوالنا وأعمالنا.

منذ أن أتى المسيح إلى العالم ابتدأ زمن الإنسان. ولكن ليس الإنسان المبتور عن الله، المنفصل والمتغرّب عنه. إنه الزمن الرائع، إذ في الإنسان، في الذين اكتشفوا المسيح، والذين آمنوا به، والذين اتّحدوا به، وهم الناس الذين إليهم قد أوكل الله رعاية عالمه، يمكن لكافّة البشر أن ينالوا الرحمة الإلهيّة والبشريّة وأن يروا التعاطف البشريّ، والمحبّة البشريّة، والفرح البشريّ.

أليست هذه دعوة عظيمة، أليست شيئًا ينبغي أن يجعلنا قادرين على أمور عظيمة؟ إنّ زمن الله وزمن الإنسان هما واحد، ليس فقط في ابن الله المتجسّد، ولكن في هذا الحضور المتجسّد السريّ الذي يمثّله كلّ واحد منّا، حضور الله في الجسد، في الرأفة البشريّة، في المحبّة البشريّة، وهذا استحقاق خطير وتحدٍ يطرحه علينا الإنجيل. هل نحن لبعضنا البعض ولأولئك البعيدين عن هذا النوع من الإنسانيّة؟ بشريّة جديدة، مخلوقات جديدة، بشر جدد بحياة متجدّدة، حياة الله. هذا ما دُعينا لنكون عليه.

تتحدّث الكنيسة المقدّسة عن المختارين أنّهم رحمة الله العظمى تجاه الأشرار، وفي هذا مسؤوليّة كبيرة. فالمختارون، للأسف، يمكن أن يكونوا مثل يهوذا أيضًا؛ الذين عاش فيهم المسيح مرّة يمكن أن يرتدّوا ويخونوا ويصلبوا مخلّصَهم فيما بعد.

إن اكتسابنا البصر يتمثّل في أن نبدأ برؤية أنفسنا مملوئين بالخطايا وقادرين على كلّ شر وخيانة. إن اكتساب البصر يتمثّل في رؤيتنا للعالم كما هو حقًّا: مطروحًا في الشرّ. إن اكتسابنا البصر يتمثّل في أن نبدأ نرى ونقدّر رحمة الله العظيمة نحونا ونحو جميع البشريّة العمياء في هذا العالم. أمّا إن لم نكن نرى هذا كلّه، فمعناه أنّنا نعتقد فقط أنّنا نراه بينما في الحقيقة ما زلنا في عمانا الذي لا ينقذنا منه إلا الربّ!

لنتأمّل في ذلك ونتّخذ قرارًا، ونتحرّك ونصبح أيقونة، وصورة لله، ليس فقط في تألّق المحبّة في أعيننا، ولا فقط في الكلمات التي ننطق بها، ولكن أيضًا في كلّ حركة وفعل. بهذا يكون زمن الإنسان يومَ ابن الإنسان، يومَ الربّ. آمين.
 
 
تكملة موضوع "الطلاق ونتائجه الأخلاقيّة" الذي نُشر سابقًا في عدد الكرمة 3 آذار 2024

القسم الثالث: "لتنقية سرّ الزواج المقدّس من الشوائب"

الحلول المقترحة لهذه المشاكل قبل الزواج وبعده والتي تندرج تحت عنوان "لتنقية سرّ الزواج المقدّس من الشوائب"
"الزواج المقدّس سرّ من أسرار الكنيسة المقدّسة، به يتمُّ اتّحاد رجل وامرأة ليتعاونا على الحياة الزوجيّة وحمل أعباء العائلة وتربية الأولاد".
خير ما نبدأ به ما نصَّت عليه المادّة الحادية عشرة من قانون الأحوال الشخصيّة لبطريركيّة إنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس وذلك إظهاراً لأهميّة سرّ الزواج المقدّس، ومحافظة على نقاوته وقدسيّته.

1-الواقع الذي نعيش:

أ- مؤلم: وهنا لا بدَّ لنا أن نكون صريحين مع ذواتنا ومع كنيستنا ومع ربّنا.
فأكثر الذين يتزوّجون في هذه الأيام لا يفقهون من سرّ الزواج المقدّس إلّا مظاهره الخارجيّة. يفهمون الزواج: حفلات ومآدب، وطبولاً وزمامير، ومواكب ومواخير، ومُسكِرات وأحدث آلات تصوير (الفيديو).

وإن أرادوا بركة الكنيسة ورعاتها فمن هذه الزاوية أيضًا يريدونها، ليضفوا على حفلاتهم جوًّا من الأبّهة والفخامة والعظمة.
ومَن كانت حالهم هكذا فسرعان ما يذوب ثلجهم ويظهر مرجهم. وتنكشف حقيقة أمرهم وتندلع نار خلافاتهم. وتتأجّج ألسنة النار هذه وتأكل الأخضر واليابس. وكثيرًا ما يفضي الأمر بهم إلى أن يعود كلٌّ منهم إلى قواعده سالمًا وأكثر الأحيان غير سالم.

ب- مشرق: ولكنّ حقيقة هذا الأمر المرّ، يجب ألّا تؤدي بنا إلى اليأس والقنوط من نعمة ربّنا. فهناك عدد من المؤمنين الممارسين يقدِّرون سرّ الزواج المقدّس حقّ قدره، ويُقدمون عليه بإيمان وثبات، وحسن فهم.

فنضرع إلى الله أن يكونوا الغالبيّة العظمى وأن يزدادوا يومًا بعد يوم.

ج- الواقع الذي لا يُحتمل: وهو الواقع الأدهى والأصعب والذي لا يُعقل. وفي هذه الحالة يُمارس سرّ الزواج المقدّس على مَن لا يؤمن به. وهؤلاء هم اتباع البدع والشيع والمنكرين والملحدين. وأعتقد أن أكثر الناس يعرفون مَن أعني وأعتذر عن ذكر أسمائهم.
فهؤلاء لا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون بكنيسته، ولا برعاتها، ولا بالأسرار المقدّسة، ولأنّهم محسوبون على كنيستنا يُمنحون نعمة الروح في سرّ الزواج المقدّس وهم بها لا يؤمنون. وحقيقة الأمر أنّهم يخدعوننا، وعلينا وعلى ربِّهم يمثّلون.

2- في القانون:

نحن في هذا الشرق نعيش في ظلّ قوانين كنسيَّة وأخرى مدنيّة. ونتمتَّع بحرّيّة إمساك زمام أمور أحوالنا الشخصيّة. وقد تضاربت الآراء في هذا الشأن: فمنهم مَن عدّ هذا نعمة، ومنهم من قال إنّها لعنة، لأنّها تحوَّلت إلى عبوديّة القوانين الطائفيّة وفلتان الأمور الروحيّة.

فمن جهة ترى أناسًا يؤمنون ويطبِّقون قوانين كنيستهم. ومن جهة أخرى ترى آخرين يؤمنون ولا يطبِّقون. وفي المقابل تصادف من لا يؤمنون ويطبِّقون القوانين قسرًا. لأنّهم يعيشون في بلد لم تُعطَ الحرّيّة فيه لمن لا طائفة له، ولمن لا يؤمن بالطوائف الموجودة. وقد كتب عليهم أن يسجَّلوا على طائفة أبيهم.

أ-الدستور اللبنانيّ: يؤمن بحرّيّة الاعتقاد وقد كرَّست المادّة التاسعة منه هذه الحرّيَّة بقولها:"حرّيَّة الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرّيّة إقامة الشعائر الدينيّة تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العامّ، وهي تضمن للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصيّة والمصالح الدينيّة".

وهذه المادّة هي التي أعطت اللبنانيّين المتوزِّعين على تسع عشرة طائفة حرّيّة المعتقد واحترام القوانين الشخصيّة العائدة لكلٍّ منهم.
وبالتالي فهي تحرم من لا يؤمن بإحدى هذه الطوائف من حرّيّة المعتقد، أو يريد التخلُّص منها وقد فُرضت عليه فرضاً.
ومن هنا ينبع حقّ كلّ طائفة في التشريع لكلّ ما يعود لأبنائها بشرط ألّا يمسّ بالنظام العامّ.
إذاً الإصلاح ضروريّ وضمن حدود الطائفة وهذا حقٌّ لنا، ولكن في حدود عدم المسّ بالنظام العامّ.

ب- القانون الكنسيّ:

الذي وضع الربّ يسوع أسسه بنفسه، قد أعطى هذا السلطان لتلاميذه ومن بعدهم لخلفائهم أحبار الكنيسة الأجلّاء بقوله له المجد "خذوا الروح القدس من غفرتم خطاياهم غفرت لهم ومن أمسكتهم خطاياهم أمسكت".

إذاً سلطان الحلّ والربط هو بيد رعاة الكنيسة. والرسول بولس يقول: "احترزوا لأنفسكم لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه الكريم". فواجب الرعاية هذا يفرض الاحتراز والتروِّي ومنح هذا السرّ المقدّس لمستحقِّيه فقط والمؤمنين به دون سواهم.

أو ليس الربّ يسوع هو القائل:"لا تطرحوا درركم أمام الخنازير"؟ والخمرة الجديدة لا توضع إلّا في زقاق جديدة. ونحن نخشى كثيرًا أن تمنح نعمة الروح القدس لغير مستحقيها، لأنّهم ليسوا الآنية الصالحة لها. ومن يريد تقبّل هذه النعمة عليه أن يكون مستعدًّا، بل آنية صالحة لتقبُّلها.

تجاه هذا الواقع قد تتساءلون: ما الحلّ إذاً؟ هذا حقّ لكم ولي. والحلّ ليس بيدي، وليس بيدكم. والمسؤوليّة لا تقع على إنسان فرد دون غيره. والواقع أنّنا وصلنا إلى هذا المأزق. وربّما قد ساهم الجميع في الوصول إليه. ولكن كيف نخرج منه؟ وهذا هو الأهمّ... أنا أقترح بعض الحلول، راجيًا من كلّ مَن يعنيهم الأمر أن يبادروا إلى اقتراح الحلول التي يرونها مناسبة. علّنا نصل وبقدرة الربّ يسوع إلى تنقية سرّ الزواج المقدّس من الشوائب التي تعتريه بفعل ممارستنا الخاطئة له.

وهذه هي الحلول التي اقترحها. ولكن أن يُعمل بها مجتمعةً دون الأخذ بواحد منها دون الآخر، وعلى مراحل. عسى أن نصل في نهايتها إلى شيء من النقاوة، وتصبح علاقة الزوج بزوجته نقيّة طاهرة كعلاقة المسيح بالكنيسة.

•             الحلول المقترحة:

الأرثوذكس برأيي ثلاث فئات:

أ-أرثوذكس مؤمنون وممارسون: وهؤلاء لا خوف عليهم ولا مشكلة معهم بالنسبة إلى إجراء سرّ الزواج المقدّس، لأنّهم هم الذين يعطون الإشراق للسرّ وقد ذكرنا ذلك سابقًا.

ب-أرثوذكس غير مبالين: ولكنّهم مستعدُّون للتعلُّم ومؤهَّلون لأن يصبحوا مؤمنين ممارسين.

ج- أرثوذكس غير مؤمنين: وهم لا يعرفون من الأرثوذكسيّة غير الاسم فقط وهم محسوبون على الطائفة بتذكرة هويّتهم فقط، إذاً لكلّ فئة من هؤلاء حلول مقترحة. ولكن مَن يصنِّف؟ وكيف؟ هذا بالطبع يعود للسلطة الكنسيّة المحليَّة. كاهن الرعيّة وراعي الأبرشيّة. ومن هنا الضرورة الملحَّة لشهادة إطلاق الحال من كاهن الرعيّة لإفادة صاحب السيادة راعي الأبرشيّة عن الفئة التي ينتمي إليها طالب الزواج من أبناء رعيّته.

فإذا كان طالب الزواج من الفئة "أ" والراعي هو الذي يتأكّد من ذلك وبواسطة مقابلة يجريها مع طالبي الزواج، ساعتئذ يأذن بالإكليل وبعد أن يتأكّد من حسن ممارسة السرّ والمحافظة على قدسيّته.

الحلول المقترحة للفئة "ب": وهم الأرثوذكس غير المبالين أو المستعدّون للتعلُّم: وهؤلاء مشكلتهم جهلهم الروحيّ. ولكن هذه المشكلة يسهل حلُّها عندما يبدي المؤمن استعداده ورغبته لتقبُّل الإيمان والتعليم.

وهنا يبرز دور الكاهن الذي يعطي شهادات إطلاق الحال للعروسين، فدوره الأساسيّ يكون بتوعية أبنائه روحيّا وبكلّ ما أوتي من قوّة. وآمل أن نصل إلى كهنة مؤهَّلين للقيام بهذا الدور. ويمكنه القيام بذلك بعد أن يتعارف العروسان إلى بعضهما البعض وبعد أن يجري الخطبة الكنسيّة.

فالفترة الفاصلة بين الخطبة والزواج يجب أن تكون فترة استعداد وتهيئة لسرّ الزواج المقدّس. وتتمّة لدور الكاهن أرى من المفيد جدًّا أن يؤلّف سيادة راعي الأبرشيّة مكتبًا ثابتًا أو متنقّلًا ووفق الحاجة. ومهمَّة القيّمين عليه تهيئة العروسين للحياة الزوجيّة. وسيادة راعي الأبرشية هو الذي يحيل إليه مَن يراهم بحاجة إلى ذلك.