الأحد 15 كانون الثاني 2023

الأحد 15 كانون الثاني 2023

13 كانون الثاني 2023
الأحد 15 كانون الثاني 2023
العدد 3
الأحد (12) من لوقا (العشرة البرص)
اللحن السادس، الإيوثينا التاسعة


أعياد الأسبوع:

15:البارّان بولس الثيبيّ ويوحنّا الكوخيّ، 16: السجود لسلطة بطرس المكرّمة، الشّهيد دَمَسكينوس، 17: أنطونيوس الكبير معلّم البرّيّة، الشَّهيد جاورجيوس الجديد (إيوانينا)، 18: أثناسيوس وكيرللس رئيسا أساقفة الإسكندريّة، 19: البارّ مكاريوس المصريّ، مرقس مطران أفسس، 20: البارّ أفتيميوس الكبير، الشَّهيد أفسابيوس، 21: البارّ مكسيموس ، الشَّهيد ناوفيطس.
       
الله الكائن

قد نسأل نحن المسيحيّين كيف لنا أن نقتني علاقةً بالله كإلهٍ شخصانيّ. 

الله ليس مجرّد فكرة، ولا يسكن في مكانٍ بعيد، الله منذ الأزل هو الكائن، وسوف يبقى حتّى انقضاءِ الدّهر! إلهنا ثالوث، أي يتشارك فيما بينه، ويريد الإنسان أن يكون على مثاله وصورته. 

هو يتفاعلُ مع الإنسانِ بِقَدْرِ ما يتجاوبُ الإنسانُ معه! 
 
كيف يتفاعلُ الإنسانُ مع الله؟ 

نعرف أنّه منذ السقوط فقَدَ الإنسانُ الشركةَ الحقيقيّةَ مع الله، لذلك نرى آدم يختبئ من وجه الله (تك ٨:٣)، فالخطيئة حجبَت هذا التماسَّ بين الله والإنسان.
 
الإنسان كائنٌ فاقدُ البَصِيرةِ لم يُدرِكْ، مع كلّ هذا التطوّر الحاصل، أهمّيةَ الله ككائنٍ وجوديّ في حياته. 

حياة الإنسان هي في تخبُّطٍ دائم، ولا يستقيم ما لم يَبنِ علاقةً مع الله خاليةً من أيّ واجباتٍ أو خوفٍ من قدرته، علاقةً يبني فيها شخصيّته وينمو بالجهاد وبحياةٍ روحيّةٍ متّزنةٍ تصقل شخصيّته، وتبرز مواهبه الكامنة فيه، وتعزّز ثقته بنفسه. 

هذا ليس بالأمر السّهل الممكن إيجاده، ولا يمكن لأيّ مخلوقٍ أن يبني علاقةً مع الله من دون تعبٍ داخليّ وخارجيّ! 

إنّ خبرة الكنيسة الأرثوذكسيّة هي خبرة الروح القدس الحالّ فيها. 

تُدرك الكنيسة إمكانيّة بناء علاقةٍ شخصانيّةٍ مع الله انطلاقًا من الإنجيل نفسه، من خلال المسيح ومنه للكنيسة. 

"فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ". (مت ١٩:٢٨). 

لقد أعطى المسيح السلطان للرسل الأطهار، وهم بدورهم أعطوه للكنيسة! لأنّ الله يُدرك تمامًا طبيعة الإنسان الجانحة دومًا نحو الضعف، أعطانا الإمكانيّة أن نُصبح آلهةً لكن بالنعمة، من خلال كلّ الأسرار المقدّسة التي منحها للإنسان، وكانت المعموديّة المفتاح الأساسيّ، إذْ من خلالها يستطيع الله أن يغرز فينا بذور النعمة، لكي ومن خلال الجهاد تنمو ونصل إلى ملء قامة المسيح، ”إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِل. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ (أف ١٣:٤).
 
انظروا هذا العدد الهائل من القدّيسين الذين أضحوا في شركة مع الله الخالق. 

هم الشهادة الحيّة لنا نحن البشر على إمكانيّة تخطّي ضعفنا الأرضيّ إلى خبرة العيش في المجد، كما يصفها الرّسول بولس” وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ (٢كور ١٨:٣). 
 
دعوتنا اليوم إلى كلّ مسيحيّ أن نجاهد جميعنا. 

ليس لنا مصيرٌ آخر بعد كلّ هذا العمر. فالحقيقة الكبرى هي أنّنا ما دمنا على هذه الأرض هناك بكاء، هناك ألم، هناك ظلم وهناك الشهوات المظلمة التي تقود الإنسان إلى حياة الإثم وتبعده عن الله، فيُظلم الفكر وتسودُّ النفس، ويقع الإنسان في اليأس، وتتمرمر حياته في تخبُّطٍ لا قيام فيه! لا استقامة من دون جهاد، ”عندهم موسى والأنبياء“ يقول المسيح في مثل الغنيّ ولعازر (لو ٢٩:١٦)، أي إنّ كلّ أساليب الخلاص كامنةٌ في خبرة الكنيسة منذ العنصرة حتّى تزول السماء والأرض. 
 
هلمّوا نتراكض لكي نغرف من خبرة الكنيسة. حتّى ولو ضعفت، الروح قويٌّ فيها؛ حتّى ولو سقطنا ألف مرّة، نحن قائمون بالتوبة. لنبكِ قليلًا هنا لأنّ الفرح والغبطة هناك لا يوصفان.
 
طروبارية القيامة باللحن السادس

إنَّ القوّاتِ الملائكيّةَ ظهروا على قبرك الموَقَّر، والحرّاس صاروا كالأموات، ومريمَ وقفت عندَ القبر طالبةً جسدَك الطاهر، فسَبيْتَ الجحيمَ ولم تُجرَّب منها، وصادفتَ البتول مانحًا الحياة، فيا من قامَ من بين الأمواتِ، يا ربُّ المجدُ لك.
 
قنداق دخول السيّد إلى الهيكل باللحن الأوّل

أيّها المسيح الإله يا من بمولده قدَّس المستودع البتوليّ، وباركَ يدَي سمعان كما لاق، وأدركَنا الآن وخلَّصَنا، إحفظْ رعيَّتَكَ بِسَلامٍ في الحروب، وأيِّد المؤمنين الذين أحببتهم، بما أنَّك وحدَكَ مُحِبٌّ للبشر.

الرسالة: كول 3: 4-11 (29 بعد الظهور)

ما اعظم أعمالَكَ يا ربُّ. كلَّها بحكمٍ صنعت
بارِكي يا نفسي الربَّ


يا إخوةُ، متى ظهرَ المسيحُ الذي هو حياتُنا فأنتم أيضًا تظهَرون حينئذٍ معهُ في المجد، فأمِيتوا أعضاءَكم التي على الأرضِ الزِنَى والنجاسة والهوى والشهوةَ الرديئَةَ والطمعَ الذي هو عبادةُ وثَن، لأنَّهُ لأجلِ هذه يأتي غضبُ الله على أبناءِ العِصيان، وفي هذه أنتم أيضًا سلكُتم حينا إذ كنتم عائشين فيها. أمَّا الآن فأنتم أيضًا اطرحوا الكُلَّ: الغضبَ والسُخط والخُبث والتجديفَ والكلامَ القبيحَ من أفواهِكم ولا يكذب بعضُكم بعضًا بلِ اخلعوا الإنسانَ العتيقَ معَ أعماله والبَسُوا الإنسانَ الجديد الذي يتجدَّدُ للمعرفةِ على صورةِ خالقِه، حيثُ ليس يونانيٌّ ولا يهوديٌ، لا خِتانٌ ولا قَلَفٌ، لا بربريٌّ ولا اسكِيثي، لا عبدٌ ولا حرٌّ، بلِ المسيحُ هو كلُّ شيءٍ وفي الجميع.
 
الإنجيل: لو 17: 12-19

في ذلك الزمان، فيما يسوعُ داخلٌ إلى قريةٍ استقبلهُ عشَرةَ رجالٍ بُرصٍ، ووقفوا من بعيدٍ ورفعوا أصواتَهم قائلين: يا يسوعُ المعلّم ارحمنا. فلمَّا رآهم قال لهم: امضُوا وَأَرُوا الكهنةَ أنفسَكم. وفيما هم منطلقون طَهُروا. وإنَّ واحدًا منهم لمَّا رأى انَّه قد بَرئ رجع يمجِّد الله بصوتٍ عظيم وخرَّ على وجههِ عند قدَميه شاكرًا لهُ، وكان سامريًّا. فأجاب يسوع وقال: أليس العشرةُ قد طُهروا، فأين التِسعة؟ ألم يوجَدْ مَن يَرجِعُ لِيُمَجِّدَ اللهَ إلّا هذا الأجنبيّ؟ وقال له: قُمْ وامضِ إيمانُك قد خلَّصَك.
 
في الإنجيل

إنّ الآباء القدّيسين يستنبطون لنا من هذه القصَّةِ مَعانِيَ رُوحيَّةً كبيرة، فيَنزِعُونَ قِشرةَ الظاهرِ الخارجيّ ويَكشِفُونَ ثِمارًا رُوحيَّةً تُغذِّي نُفوسَنا.

إنَّ الربَّ يَسُوعَ من خلال شفائِه للعشرة البرص، أراد أن يُظهرَ أنّه هو شافي النفس، وأنّه هو الذي يستطيع أن يعطي الصحَّةَ للجنس البشريِّ المنفسِد بِبَرَصِ الخطيئة. 

ولكنْ هَلُمَّ نُنعِمِ النظرَ في بعض تفاصيل طريقة شفاء البرص.

لقد استجاب المسيح دعاء البرص، فأرسلهم الى الكهنة كمتمِّمين للشريعة، حتّى يتحقَّقوا من شفائهم.

ويمكننا أن نرى هذه النقطة رسمًا لِسِرِّ الاِعتراف. 

فمن يعرف مرضَهُ الروحيَّ ويعرفُ أهواءَه وخطاياه بتواضع، "يرفع صوته" نحو المسيح.

 ويصلّي له معترفًا بخطاياه ذهنيًّا.

يقوم بما نسمّيه اعترافًا ذهنيًّا، وهذا الاِعترافُ هو شرط الاِعتراف الصحيح أمام الكاهن أي الأب الروحيّ. 

وصلاةُ الاِعتراف هذه بَدءُ الشفاء. 

ثُمَّ إنّ البُرص فيما أطاعوا وذهبوا إلى الكهنة، وبينما هم ذاهبون برئوا" (لو 17: 14). 

فالصلاة إذن هي نفخةٌ مُحيِيَةٌ تبعث في داخلنا رغباتٍ روحيَّةً كانت مائتة، تُوحي لنا بِطاعةِ الآباء القدّيسين، ومؤسِّسِي الكنيسة، تشدّد الرغبة في الاِعتراف، وتَحُثُّنا على سرّ التوبة. 

أمّا الصلاة غير المرتبطة بالتوبة وغير المؤدِّيةِ إلى ممارسة أسرار الكنيسة، فهي مجازفة روحيَّةٌ خطرة. 

إذًا في طاعتنا لتراث الكنيسة وللوحي الذي تَبعثُهُ نِعمةُ الله فينا، عندما نقرِّرُ أن نكشفَ جِراحاتِنا الروحيَّةَ لأبينا الروحيِّ الكاهن، مِنَ الآن (فيما هم ذاهبون)، نتطهَّر، مِنَ الآن نكتسبُ قُوَّةً ضِدَّ الخطيئة، متحرِّرِين مِن قُيُودِها. 

أجل ما زلنا نخاف الخطيئة؟

لأنَّها تأسر انتباهنا بسهولة، ولكنَّنا نستطيعُ أن نَصرِفَ وَجهَنا عن إيحاءاتِها، لأنَّنا بَدَأْنا نتذوَّقُ حياةً ذاتَ نوعيَّةٍ أُخرى. 

مِن المهمِّ أن يَعرفَ المؤمنُ الدورَ الكبير الذي يلعبُه الكاهنُ في حياتِه.

وَمُهِمٌّ أيضًا أن يَعرِفَ كيف يَستَغِلُّ ظُروفَهُ، فلا يتأخَّر ويؤجّل. 

فالرغبات الروحيَّةُ التي تؤولُ إلى التعمُّقِ في حياة الكنيسة يجب ألّا تبقى غيرَ مُشبَعة، والإلهامات التي تولِّدُ التوبةَ يجب أن تتغذّى دائمًا بالأعمال وبالاِعتراف معًا. 

إنّ الحركة التي تُثيرُها نعمةُ الله فينا بِشَتّى الطُّرُقِ لا بُدَّ أن تُخرِجَنا إلى جادَّةِ العمل. 

هناك، "فيما هم ذاهبون"، سوف نتحقَّقُ مِن تَجَدُّدِنا.
 
ولو صَدَقُوا

إنّ القدّيس يوحنّا الدمشقيّ في حديثه عن المخلوقات، يُوضحُ العلومَ السائدة في عصرِه، بِخاصَّةٍ ما يتعلَّقُ بِعَملِ الكون والنجوم والكواكب، ويُوضحُ أنَّ عناصر الكون وُجدَت بكلمة الله والكواكب تحافظ على توازنها بإرادته، فالله هو الضابط الكلّ منذ الخلق، ومستمرٌّ في عَمَلِه هذا، وهو قد وضع ترتيبَها وحدَّدَ دَورَها لخدمة الإنسان المخلوق على صورته ومثاله.

ويُسهبُ القدّيسُ في مَقالاتِه (المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسيّ) بالحديث عن حركات النجوم وأبراج السماء الإثني عشر التي أغلَبُنا  يَعلَمُ أسماءَها، معتمدًا على علوم عصره في بَحثِ حركاتها، ويذكّرُنا بكاتب سفر التكوين حين يتكلّم في أصحاحِه الأوَّل عن النيِّرَين العظيمَين الشمس والقمر.

في العهد القديم، كانت الكواكب من المعبودات عند الشعوب الوثنيّة، وتُنسب الألوهة لكلٍّ منهما، والآلهة تحدّد مصير الكائنات وتسيّرها كيفما تشاء، ويعمل الإنسان أعماله بدافع منها.

الدمشقيّ يواجه هذه الأفكار بالإضاءة على الأمر برمّته مقارنًا تفكير الوثنيّين مع اعتقاده المسيحيّ قائلًا:" يقول الإغريق بأنَّ كلَّ شؤوننا تتدبَّرُ بِهذَينِ الكَوكَبَين، الشمس والقمر، بشروقهما وغروبهما وتشابكهما، وبهذا يقوم علم التنجيم. أمّا نحن فنقول: إنَّ النجوم ليست سببًا للحوادث أو الولادات، وليس لها تأثيرٌ على أخلاق البشر ومناقبيَّتِهم. بإمكانها أن تكون علامات مطر أو صحو، بردٌ أو حرّ، رطوبة أو جفاف، أمّا أن تكون إشاراتٍ ودلالاتٍ إلى أعمالنا فَكَلّا، لأنَّ الخالق قد كوّنَنا مُطلقِي الحرّيّة، ونحن أسياد على أعمالنا، وإن كنّا نعمل أعمالنا كلَّها بِدافعٍ من النجوم فنكون بذلك نعمل عن اضطرار، وما نَعمَلُه عن اضطرارٍ وَبِدُونِ حرّيَّتِنا فليس هو بفضيلة أو رذيلة، وبالتالي لا نعود نستحقُّ ثَوابًا أو عقابًا. وبذلك يكون الله نفسه ظالمًا إذا مَنحَ البعضَ الخيراتِ وحَجبَها عن الآخرين، ولا يكون حِينَها مُدَبِّرًا لِخَليقتِه ولا معتنيًا بها كَأَبٍ حنونٍ علَّمَنا أن نَدعُوَه "أَبّا ".

بين الفَينةِ والأُخرى، وخصوصًا في الأيَّام الأخيرةِ من السنة، نرى الكثيرين يسارعون في ترداد ما قاله المنجِّم فلان أو ما تحقَّقَ من نبوءات المنجِّمين. 

ويستخدم الإعلام مراجعة التاريخ والحوادث لِيُثبِتَ لِلناظرِين والمستمِعِين أنَّ من يستضيفه قد تحقَّقَتْ نسبةُ نبوءاتِه، والناسُ بِغَفْلَةٍ منهم تتبرمجُ أذهانُهم على التلقّي والتفاعُلِ مع كلّ ما يُقال، لدرجة التحزُّب، مُتَناسِين القَولَ المأثور" كَذِبَ المنجِّمُونَ ولو صَدَقُوا".

الوقوع في حبائل الوثنيّة القديمة -المحدَّثة أصبح سهلًا لِمَن لا يَفْقَهُ المسيحيَّةَ ولا يعرف الخالقَ بابنِه يسوع. 

التجارة والتلاعب بعقول الناس فَنُّ يُزاوِلُه الدارسون للأهواء البشريَّةِ وكيفيّةِ تنميتِها، مستخدِمِين أبوابَ الخوفِ مِنَ الآتي، معرفة المستقبل، أو الفضول والحشرية أو التسلية أو أيّ هوىً آخر. 

إنّها هي ذاتها التي يجاهد المسيحيُّ للتخلُّص منها لِنَيل الحياة الأبديّة.
فلنتفطَّنْ لِما يُصيبُنا، ولنتمعَّنْ أكثر بأهميّة حياتنا وفرادة اللحظات التي نخسرها بعيدًا عن مصدر فرحنا الحقيقيّ وطمأنينة قلوبنا. 

ليعتقنا الرب من روح البطالة والفضول، وليٌنِر قلوبنا وأذهاننا فتستنير بنور المسيح الذي به نتحرَّر من ظلمة هذا الدهر الخدّاع. 
 
أبونا البارّ المتوشح بالله أنطونيوس الكبير

إنّ أنطونيوس زعيم أهل العيشة الرهبانيّة المتوحّدِين، وُلد في مصر سنة 251، وكان أبوه حسن العبادة.

وإذ سمع وقتًا ما الصوت الإنجيليّ القائل (إنْ كنت تريد أن تكون كاملًا فاذهب فبعْ كُلَّ شيء لك وأعطه للمساكين...) أجرى ذلك للحال بالفعل.

فَإنَّه وزَّع كُلَّ ما كان يملك على المساكين وذهب إلى البرّيّة متخلِّصًا من كُلّ شقاء في العالم. 

وإنّ التجارب التي أصابته هناك متواترة في مدّة عشرين سنة تكاد لا تُصدَّق، وجهاداته النسكيّة في النهار والليل التي أمات بها جماح الأهواء حتّى بلغ الى درجة عدم الشعور بها، تفوق حدود الطبيعة. 

وصيت أعماله الفاضلة قاد جمًّا غفيرًا إلى الاِقتداء به حتّى أضحت البرّيّة نظير مدينة، وكان هو زعيم أهل هذه المدينة الحديثة العمار والواضع الناموس لهم ومروّضهم. 

وقد تمتّعت مدن العالم أنفسها أيضًا بأثمار فضيلته. 

فانه إذ كان المسيحيّون يضطهدون ويماتون على عهد مكسمينس سنة 312، بادر هو إلى إغاثتهم وتعزيتهم.

 ولما كانت الكنيسة مضطربة يزعجها الآريوسيّون، انحدر الى الإسكندريّة سنة 335 وناضل بازائهم عن استقامة الرأي. 

وقاد كثيرين حينئذ من غير المؤمنين إلى الإيمان بالمسيح بقُوَّة أقواله. وعلى هذه الطريقة قضى حياته الى أن تُوُفِّي. 

وقد عاش 104 سنين وغدا قدوة في الفضيلة ونموذجًا للمتوحِّدِين.

 وكانت وفاته في 17 كانون الثاني سنة 356 م.