الأحد 27 حزيران 2021          

الأحد 27 حزيران 2021          

23 حزيران 2021
الأحد 27 حزيران 2021
 العدد 26
أحد جميع القدّيسين 
 
اللحن الثامنا لإيوثينا الأولى
 

* 27: البارّ شمشون مضيف الغرباء، يونّا امرأة خوزي، * 28: بدء صوم الرسل، نقل عظام كيرُس ويوحنّا العادمَي الفضّة، * 29: بطرس وبولس هامتا الرُسل، * 30: تذكار جامع للرُسل الاثنَي عَشَر، * 1: الشَّهيدان قزما وداميانوس الماقتا الفضّة، * 2: وضع ثوب والدة الإله في فلاشرنس، * 3: الشَّهيد ياكنثس، أناطوليوس رئيس أساقفة القسطنطينيّة. * 
 
الألـــم
 
لم يخلق اللهُ الإنسانَ لكي يتألّم ولكي يموت. لكنّه قال له: "أمّا شجرة الخير والشرّ فلا تأكل منها فإنّك يومَ تأكلُ منها تموتُ موتاً" (تكوين 2: 17) لم يقل له سوف أعاقبك بالموت، إنّما نتيجة عملك هذا هو الموت.
 
 لقد مات روحيًّا بانفصاله عن الله. مِن ثَمَّ أخذَ يموتُ جسديًّا مع الزمن. عندها الألم، الفساد والأمراض كلّ ذلك أخذ ينمو في حياته.
هكذا أضحى الألم طبيعيّاً في حياته.
 
عندما أتى المسيح إلى العالم قضى على الموت بموته على الصليب وقيامته. بقي الإنسان يتألّم ويسمح الله بذلك صوناً لحرّيّته. الألم لا مفرّ منه بعد السقوط، ومعه بقاءُ آثارِ الخطيئة الجدّيّة فينا:
 
إنّ الطبيعة الإنسانيةّ الساقطة تميل إلى حبّ اللذّة Philizonia وإلى حبّ المجد Philodoxia، وهذه كلّها لا يغلبها سوى الألم والتحسّر والتوبة التي هي لها بمثابة دواء شافٍ مُرِّ المَذاق. لنا أن نواجه الألمَ بصبر وصلاة دون تذمّر، أن نواجه المرض وحتى الموت برجاء وسلام.
 
لا يمكن لنا بعد السقوط أن نتجنّبَ الألم. ما مِن إنسانٍ لا يتألّم في حياته. أمّا في آخر حياته على الأرض فيأتيه الألمُ الكبير، ألمُ الخروج من هذا العالم، انفصالُ النفس عن الجسد، عندها ينتهي كلّ شيء في هذا العالم.
 
يقول القدّيس بايسييوس: عندما نموت تتفتّح أعينُ أنفسنا كما يحصل مع الطفل الخارج من بطن أمّه. يفتح عينيه ناظراً لأوّل مرّة إلى العالم الآخر الأزليّ. 
 
تتفتّح الأعين لواقع آخر مختلف بالكليّة.
 
عندها سوف نشكر الله على كلّ الأحزان التي عانيناها في حياتنا على الأرض. سوف نعلم أنّ ما أفادنا أكثر من غيره لم يكن تلك الأمورُ المريحة ههنا على الأرض، بل كانت تلك الشدائد والضيقات والآلام التي كابدناها ههنا في العالم.
 
*ولو كان مرّاً.
 
+ أفرام
مطران طرابلس والكورة وتوابعهما
 

طروبارية القيامة  باللّحن الثامن
 
إِنْحَدَرْتَ من العُلُوِّ يا مُتَحَنِّن، وقَبِلْتَ الدَّفْنَ ذا الثَّلاثَةِ الأيَّام لكي تُعْتِقَنَا من الآلام. فيا حياتَنَا وقيامَتَنَا، يا رَبُّ، المجدُ لك.
 
طروباريَّة أحد جميع القدِّيسين باللّحن الرَّابع
 
أيُّها المسيحُ الإله، إِنَّ كنيسَتَكَ إذ قد تزيَّنَتْ بدماءِ شُهَدائِكَ الَّذين في كلِّ العالم، كأنَّها ببرفِيرَةٍ وأُرْجُوَان. فهي بهم تهتِفُ إليكَ صارِخَة: أَرْسِلْ رأفَتَكَ لشعبِكَ، وٱمْنَحِ السَّلامَ لكنيسَتِك، ولنفوسِنَا الرَّحمة العُظْمَى.
 
قنداق أحد جميع القدِّيسين باللّحن الرَّابع
 
أيُّها الرَّبُّ البارِئُ كلَّ الخليقةِ ومُبدِعُها، لكَ تُقَرِّبُ المسكونَةُ كَبَواكيرِ الطَّبيعةِ الشُّهَدَاءَ اللابِسِي اللاَّهوت. فبطَلِباتِهِم وَشَفاعةِ والدةِ الإله، اِحْفَظْ بالسلامَةِ التامَّةِ كنيسَتَكَ وَشَعبَك، يا جَزِيلَ الرَّحمَةِ وَحدَك.
 
الرِّسَالة
(عب 11: 33-40، 12: 1-2)
عَجِيبٌ هو اللهُ في قدِّيسيه   في المجامِعِ بَارِكُوا الله

 
يا إخوةُ، إنَّ القدِّيسينَ أَجمَعِين بالإيمانِ قَهَرُوا الممالِكَ وعَمِلُوا البِرَّ ونَالُوا المواعِدَ وسَدُّوا أَفْوَاهَ الأُسُود، وأَطْفَأُوا حِدَّةَ النَّارِ ونَجَوْا من حَدِّ السَّيْفِ وتَقَوَّوْا من ضُعْفٍ، وصارُوا أَشِدَّاءَ في الحربِ وكَسَرُوا مُعَسْكَرَاتِ الأجانِب. وأَخَذَتْ نساءٌ أَمْوَاتَهُنَّ بالقِيامة. وعُذِّبَ آخَرُونَ بتوتيرِ الأعضاءِ والضَّرْبِ، ولم يَقْبَلُوا بالنَّجَاةِ ليَحْصُلُوا على قيامةٍ أفضل. وآخَرُونَ ذَاقُوا الهُزْءَ والجَلْدَ والقُيُودَ أيضًا والسِّجن. ورُجِمُوا ونُشِرُوا وٱمْتُحِنُوا وماتُوا بِحَدِّ السَّيْف. وسَاحُوا في جُلُودِ غَنَمٍ ومَعْزٍ وهُمْ مُعْوَزُون مُضَايَقَونَ مجَهُودُون. ولم يَكُنِ العالمُ مُسْتَحِقًّا لهم. فكانوا تائِهِينَ في البراري والجبالِ والمغاوِرِ وكهوفِ الأرض. فهؤلاء كلُّهُم، مَشْهُودًا لهم بالإيمانِ، لم يَنَالُوا الموعِد. لأنَّ اللهَ سبَقَ فنظَرَ لنا شيئًا أَفْضَلَ، أنْ لا يُكْمَلُوا بدونِنَا. فنحن أيضًا، إذا يُحْدِقُ بنا مثلُ هذه السَّحابَةِ من الشُّهُودِ، فلْنُلْقِ عنَّا كُلَّ ثِقَلٍ والخطيئةَ المحيطَةَ بسهولةٍ بنا. ولْنُسَابِقْ بالصَّبْرِ في الجِهادِ الَّذي أمامَنَا، ناظِرِين إلى رئيسِ الإيمانِ ومكمِّلِهِ يسوع.
 
الإنجيل
متى 10: 32-33، 37-38، 19: 27-30 (متى 1)

 
قال الربُّ لتلاميذه: كلُّ مَنْ يعترفُ بي قدّامَ الناسِ أعترفُ أنا بهِ قدَّام أبي الذي في السموات. ومَن ينكرُني قدَّام الناس أنكره انا قدَّامَ أبي الذي في السماوات. مَن أحبّ أباً أو أماً أكثرَ مني فلا يستحقُّني، ومن أحبَّ أبناً او بنتاً أكثر مني فلا يستحقُّني، ومَن لا يأخذُ صليبه ويتبعُني فلا يستحقُّني، فأجابَ بطرسُ وقال لهُ: هوذا نحنُ قد تركنا كلَّ شيءٍ وتبعناك، فماذا يكونُ لنا؟ فقال لهم يسوع: الحقَّ أقولُ لكم، إنَّكم أنتمُ الذين تبعتموني في جيل التجديد، متى جلس ابنُ البشر على كرسيّ مجده، تجلِسون أنتم أيضًا على اثنْي عَشَرَ كرسيًّا تَدينونَ أسباط اسرائيل الإثني عشر. وكلُّ مَن ترك بيوتاً أو إخوة أو أخواتٍ أو أباً أو أماً أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً من أجل اسمي، يأخُذُ مِئَة ضعفٍ ويرثُ الحياة الأبديّة وكثيرون أوَّلون يكونون آخِرين، وآخِرون يكونون أوَّلين.
 
في الإنجيل
 
اليوم هو الأحد الأوّل بعد العنصرة أي عيد حلول الروح القدس على التلاميذ وابتداء البشارة. وعمل الكنيسة في العالم بقوّة هذا الروح الذي يُلهمها ويقودها إلى القداسة، ولأنّه قدّوس يمنح القداسة. فنعيّد اليوم لجميع القدّيسين ونقول إنّ القداسة هي عملُ الثالوث القدّوس فينا. ونقرأ هذا الفصل الإنجيلي من بشارة الرسول متى الذي يتركّز الكلام فيه على الاِستغناء عن كلّ شيءٍ مِن أجل اتّباعِ الربّ يسوعَ والسعيِ نحو القداسة. هو الذي قال لنا "كونوا قدّيسين كما أنّ أباكم السماويَّ هو قدّوس". فعندما نعترف به جهارًا أنّه هو الإله الحيّ، يقودُنا هذا الاِعترافُ إلى الشهادة له في كلّ عَمَل، حتّى لو وصلت إلى شهادة الدم. وهذا ما صنعه الكثيرُ من القدّيسين عبر العصور العابرة.
 
قال الربّ: "مَن ترك بيوتًا أو إخوةً أو أبًا أو أُمًّا مِن أجلِ اسمي، يأخذُ مئةَ ضِعفٍ ويَرِثُ الحياةَ الأبديّة".
 
استعملَ الربُّ فِعلَ "تَرَكَ" وهذا هو الأساس عند المؤمن الذي ينجذب إلى الربّ يسوع، وهذا ما فعله كثيرون.
أندرواسُ وَبُطرسُ تَركا شباكَهما، ويعقوبُ ويوحنّا تَركا أباهُما أيضًا. والمرأةُ السامريّةُ التي كانت حاملةً جَرّةً لتستقيَ بها مِنَ البئرِ تركَتْها وذهبَتْ إلى البشارةِ بيسوع.
 
الإنسانُ عندما يتعلّقُ بأمرٍ ما يكونُ قد سَبَقَ هذا التعلُّقَ تَرْكٌ ما.
 
القدّيسون جميعًا أحبُّوا الربَّ يسوعَ حُبًّا جَمًّا وشَهِدُوا لهذا الحبِّ بِبَهاءِ سُلُوكِهم، وَمِنهُم مَن ذَهَبَ بالشهادةِ إلى حَدِّ الموت، بعدَ أن تركوا أُمورًا كثيرة. في هذا اليوم لا نَذكُرُ القدّيسِينَ فقط، بل نَطلُبُ صلواتِهم ونَغتَذِي بهم، لأنّهم نماذجُ أمامَنا في التَّرْكِ والحُبِّ والشهادةِ للنهاية، على حَدِّ قَولِ الرسولِ بولس: "تشبَّهُوا بي كما أتَشَبَّهُ أنا بالمسيح..."
كُلُّنا مَدعُوّونَ إلى سُلوكِ دَربِ القداسةِ بِقُوّةِ الروحِ القُدُسِ الذي يُقَوّينا وَيُرشِدُنا إن نحن أَرَدْنا المسيرَ في هذا الطريق.
 
مَن هم القدّيسون
 
بين القدّيسين والعنصرة توأمةٌ مقدّسة. فالقدّيسون هم أولئك الّذين انسكبت فيهم نعمة العنصرة، ومن خلالهم تستمرّ نعمةُ العنصرةِ فاعلةً في العالم. إنّهم يصيرون أسرارًا حيّةً ليسوع المسيح، يستمدّون مِن أسرار الكنيسة كلَّ نعمةٍ وحقّ. الحقيقة الإلهيّة أصبحت مختزَنةً في أعماق نقاوة قلوب القدّيسين، تلدُ لاهوتَ معرفةِ الله الحيّة. هكذا يولد القدّيسون حاملِينَ العنصرة. الصورة والمثال الإلهيّان لا يُستعادان إلّا بهذه الدرجة من القداسة. لهذا أوصانا المسيح "كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس".
 
ميزة القدّيسين هي سعيُهم الّذي لا يتوقّف إلى الكمال الإلهيّ، بمقدار ما هو مستطاع من بشر. لم يصيروا هكذا بفعل كمالِهم الأخلاقيّ أو الاجتماعيّ، إنّما بفعل تغيّرهم الّذي لا يتوقّف نحو الكمال؛ تغيّر الذهن والقلب في حركة عشق لا تتوقّف نحو المسيح الحقيقيّ وحده. لأجل محبّة المسيح زهدوا بهذا العالم وتخلّوا عن كلّ تعلّق أرضيّ وعن تنعّم الجسد، وانطلقوا في هجرة لا تتوقّف نحو الملكوت السماويّ. روّضوا أجسادهم بالنسك وإنكار الذات لتخضع للروح.
 
القدّيسون علموا أنّ القداسة تأتي من هذه الدقّة في حفظ وصايا المسيح، كلّ الوصايا حتّى أصغرها. لكن يستحيل حفظُ الوصايا قبل السيطرة على الأهواء. لهذا أحبّوا النسك، الأصوامَ الكثيرةَ والسّجدات، الصلوات المركّزة مع دموعٍ وسَهَرٍ بِلا كَلَل، الصبرِ الكثير والتواضع بلا حدود.
 
يُشدّدُ القدّيسُ أفرام السريانيّ على حركة النعمة في النفوس المجاهدة بِقَولِه: "يرمي الله بذارَه، لكن في الأجساد النسكيّة والتقشفيّة"، ويُكمل قدّيسُنا قائلاً: مِن دُونِ جهادٍ وتَعَبٍ "لا أحدَ سيُتوَّجُ لا في هذه الحياة ولا في الحياة الثانية". يستحيل العبور إلى القداسة من دون نُسْك، لأنّ هذا النُّسْكَ هو الّذي يقمع أهواء محبّة الذات الأنانيّة ويُحوّلها إلى محبّة المسيح. كمال القدّيسين الذّي لا يكتمل هو محبّة المسيح.
 
القدّيسون هم الّذين استطاعوا أن يُولَدوا ثانيةً مِن التوبةِ والروح. مسيرة القدّيسين هي مسيرة تائبين، قد يأتون من كافة أنواع الخطايا والأهواء والهرطقات.
 
القدّيسون هم الّذين عَرَفُوا ضعفَهم وفَقرَهُم الروحيّ، فأسلموا حياتَهم للمسيح في توبةٍ لا تتوقّف. لم ييأسوا من كثرة الأحزان وتجارب الشياطين ولا من كثرة السقطات، بل أخذوا من ضعفهم تواضعًا كثيرًا، لينهضوا ويُقاوموا الخطيئةَ حتّى الموت.
 
صبرُهم الكثيرُ اجتذبَ نعمةً كثيرة، شفى فيهم قساوةَ القلبِ وعلّمَهم الصلاةَ بِلا انقطاع. مِيزةُ القدّيسينَ أنّهم لا يشعرون بفضائلهم إنّما بخطاياهم بإحساسٍ داخليٍّ عميق، وبِحاجتِهم إلى رحمةِ الله.
 
هذا ما يُعطيهم أن يتوبوا ويَبكُوا خطاياهم، عالِمِينَ أنّهم يستحقّون الجحيمَ وكلَّ الدينونة. هذا هو سِرُّ عَمَلِ النعمةِ في تواضُعِ القدّيسين. توبة القدّيسين لا تتوقّف أبدًا، يتوبون ولا ييأسون، عالمين أنّ خطاياهم تُغفر بالتوبة، لكن يعلمون أيضًا أنّه إذا توقّفت التوبة تعود الخطايا أشرّ.
 
من جهة الإيمان المقدّس، رفض القدّيسون أن يُجارُوا روحَ العصر، بل قاوموا تأثيراتِه. واجهوا الهرطقاتِ بقوّة، كلَّ أنواعِ الهرطقات؛ عالمين أنّها تحمل روح إبليس. الهرطقة تُناقضُ القداسة. والهرطقةُ الحديثةُ لها أَوجُهٌ كثيرة: المسكونيّة، التوفيقيّة، العَصْرَنة... كُلُّها تُناقِضُ القداسة. لا يمكن أن يتقدّسَ مَن يُسلِمُ ذاتَه لهذه العولمة الدينيّة ولروح العصر والسعيِ إلى تجديد حياة الكنيسة بمقاييس الحياة العصريّة. كيف يمكن أن يتقدّس مَن يُشوّهُ إيمانَ القدّيسين النقيّ ويمزجُه بتعليمٍ آتٍ مِن شيطانِ المناقضةِ وتَعَظُّمِ الفِكر.
 
أولئك الّذين يُلْقُونَ عَثَراتٍ أمام المؤمنين، ويُشكّكون أبناء الله بالمقدّسات والقُدُسات، ويُشكّكونَ بِنُورِ القيامةِ وبالنعمةِ المتجلّيةِ في بقايا القدّيسين، يُسلّمون ذاتهم لروح الضلال. بدايةُ محبّةِ القريب هي أن تُزيلَ الشُّكُوكَ والعَثَراتِ مِن مسيرةِ خلاصِه، لأجل ثَباتِهِ في الإيمانِ ونُمُوِّهِ في الرجاء. القدّيسون مَقَتُوا العثراتِ وعلَّموا أنّ دينونتَها عظيمة.
 
القدّيسون لا يُصنعون بكثرة النظريّات والتبجّح والغرور، إنّما بإخضاع فكرهم ومشيئتهم للمسيح وكنيسته. القدّيسون يولدون من قانون الإيمان الأرثوذكسيّ، الّذي هو دستور الحياة الأبديّة. القدّيسون هم ثمرة الطاعة للإيمان الأرثوذكسيّ، ثمرة تسليم مشيئتهم الذاتيّة للخبرة الجامعة التي تُبنى بقوّة الإيمان أوّلاً، ثمّ بالتعب والأصوام والصلوات.
 
القدّيسون يولدون من تقليد الكنيسة، من إخضاع كلّ فكرٍ فيهم لطاعة تقليد الكنيسة. القدّيسون فهموا أنّ الطاعة تفرّغ النفس من أنانيّتها ومن اتّكالها على مفاهيمها الخاصّة، فتخضع بإرادتها الذاتيّة لفكر الكنيسة المقدّسة وعقائدها وقوانينها.
 
هكذا تستمرّ خبرة القدّيسين كاملة، وهي ذاتها من جيل إلى جيل، عبر الطاعة لتسليم الإيمان الأرثوذكسيّ. فقط هذه النفوس، التي بالإيمان والطاعة، اتّحدت مشيئتها بمشيئة الله، قادرة أن تتقدَّس وتُقدِّس، أن تستنير وتُنير وتُثبّت الكنيسة في مسيرة قدّيسيها.
 
هكذا تصير الكنيسة صانعة قدّيسين، وإلّا فإنّها تفقدُ كلَّ معنى وجودِها. أليس لأجل هذا أتى ابن الله إلى العالم؟ الكنيسة التي لا تُنتجُ نسّاكًا وقدّيسين انتقلوا من الإيمان العقليّ إلى خبرة معاينة الله، تصبح بسهولة كنيسة نواميس وأخلاقيّات؛ كنيسة دنيويّة فارغة من الروح، سائرة بسهولة إلى الزوال والاندثار.
 
القدّيسون هم صناعة النعمة الإلهيّة، النعمة المرتبطة حصرًا بالإيمان الحقّ المستقيم؛ وخارج هذا الحقّ لا توجد لا نعمة ولا قداسة. القداسة لا تبنيها حالاتٌ نفسيّةٌ عاطفيّة، أو سيرةٌ أخلاقيّة حميدة، أو خدمةٌ اجتماعيّةٌ بارزة، كما هو المعيار لدى غير الأرثوذكسيّين، إنّما هي اشتراكٌ كيانيٌّ في استقامة الإيمان وفي نور الله غير المخلوق، بعد التحرّرِ الكاملِ من الأهواء.
 
فالإنسان من دون النعمة ليس فقط لا يتقدّس، إنّما أيضًا لا يستطيع أن يقدّم عملاً مرضيًّا أمام الله. لهذا، يوصي القدّيس أفرام السريانيّ بأن لا تكونَ لكَ شركة مع الهراطقة، لأنّه لا توجد لديهم أعمالٌ صالحة، بما أنّهم خرجوا مِنَ النعمةِ الإلهيّة، نتيجةَ ابتعادِهم عن الإيمان المستقيم.
 
كل الّذين في التاريخ، جاهدوا لأجل الإيمان الأرثوذكسيّ، الّذين "عملوا وعلّموا"، تقدّسوا. في زمن الارتداد الّذي سيسود الزمن الأخير، سيتحوّل الكثيرون إلى صغارِ نفوس، لا يُساومون ويرتدّون عن الحقّ فقط، إنّما يضطهدون الّذين يتمسّكون بهذا الحقّ. لن يكونوا كثيرين أولئك الّذين سيقبلون أن يُضطهدوا لأجل صليب المسيح.
 
أو ليست الأرثوذكسيّة حاملة صليب المسيح في هذا العالم. مع هذا، لا يمكن أن يتوقّف وجود القدّيسين في هذا العالم. فهؤلاء بإيمانهم الحيّ وَبِنُسكِهم وصلاتِهم النقيّةِ وغَلَبَتِهم على الشياطين النجسة، يقدِّسون، لا فقط المكان الّذي يَنسَكُونَ فيه، إنّما يَنالُ العالَمُ كلُّه إشعاعاتٍ مِنَ النعمةِ الفاعلة فيهم. لهذا، لن تأتي دينونةُ هذا العالَمِ الحاضرِ طالما سيبقى هناك كفايةٌ من القدّيسين الأرثوذكسيّين الحقيقيّين، كخميرةٍ مقدَّسةٍ لهذا العالم البائس. القدّيسون الأرثوذكسيّون هم أساساتُ استمرارِ وجودِ العالم. وهؤلاء القدّيسون سيصبحون قليلين جدًّا كلّما تقدّم الزمن نحو النهاية، لكن قد يكونونَ مُشِعِّينَ أكثر، في زمن الارتداد الكبير.