الأحد 11 تشرين الثّاني 2018
11 تشرين الثاني 2018
الأحد 11 تشرين الثّاني 2018
العدد 45
الأحد الـ 24 بعد العنصرة
اللَّحن السّابع الإيوثينا الثّانية
* 11: الشّهداء ميناس ورفقته، إستفانيس، ثاوذورس الإسطوذيتيّ، * 12: يوحنّا الرّحوم رئيس أساقفة الإسكندريّة، البارّ نيلس السِّينائيّ. * 13: يوحنّا الذهبيّ الفم رئيس أساقفة القسطنطينيّة، * 14: الرّسول فيلبُّس، غريغوريوس بالاماس، * 15: الشّهداء غورباس وصاموناس وأفيفس، بدء صوم الميلاد، * 16: الرّسول متّى الإنجيليّ، * 17: غريغوريوس العجائبيّ أسقف قيسارية الجديدة. **
"إنّما الحاجة إلى واحد”
أيّام قليلة تفصلنا عن صوم الميلاد، و يبدأ معه العالَم بالتخبّط، و تبدأ معه زحمة السّير وعجقة الأسواق.
فالمسيحيّ و غير المسيحيّ يتحضّران لأكبر بازار اقتصاديّ للبيع والشّراء، وغيرهما من الأمور التي تدرّ الرّبح الكبير على المؤسّسات الكبيرة، و ربّما رتّبت ديونًا على أصحاب الدّخل المحدود.
كلّ ذلك ليمارسوا تقاليدَ وأموراً غريبة عن روح المسيح والمسيحية. "كثيرون مدعوّون وقليلون يُنتخَبون" (متّى 14:22).
مَن هم المدعوّون؟ كلّ إنسان من دون استثناء. ومَن هم المختارون؟المختارون هم الذين يفتحون قلوبهم لينالوا نعمة الله.
هذا هو المجهود الوحيد الذي علينا القيام به، فإن استطعنا نصبح مختارين، وهذا رهنٌ بأن نفتح الأبواب لتسكن فينا نعمة الله.
عيد الميلاد يسمّونه في التقليد الشعبيّ المَحَلّي "عيد العائلة"، لأنّ العائلة تجتمع فيه حول مائدة واحدة يتناول أفرادها طعام العيد.
كما أنّه، في بعض البلدان، تكون مائدة عيد الميلاد مفتوحةً لكلّ فقير وعابر سبيل.
كذلك هي مائدة الرّبّ التي نحن مدعوّون إليها مفتوحةٌ لكلّ إنسان، والدّعوة علنيّة لنا نحن الفقراء بالنعمة، المتشرّدين في العالميّات. فغالبًا ما
نقدّم أعذاراً متعدّدة أو نفلسف الأمور لنتهرّب من دعوة الرّبّ لنا إلى وليمته.
نتلهّى بالأمور المعيشيّة، التقاليد الشعبيّة، العائلة، الحياة الإجتماعيّة، الزينة الخارجيّة .....
قد يكون بعض هذه الأمور مهمًّا وبعض منها ضروريًّا.
لكنّ طريقة أدائنا وتصرّفنا بتلك الأمور يجب أن تتمّ بحكمة حتّى لا تقودنا بعيدًا عن مائدة الرّبّ. فالإنسان المبارك هو الإنسان المُتَحَوِّل من إنسان عبد لشهواته إلى إنسان جديد حيّ بنعمة الله المُحَرِّرَة، وهو بدوره يُحَوِّل مسار كلّ ما هو عالميّ إلى شيء مبارك، وعمله هذا يمنحه مكافأة إلهيّة في الدّهر الحاضر والدّهر الآتي.
دعوة الكنيسة لنا، مع بدء هذه المواسم، أن لا ننسى أنّ ربّ المجد يسوع المسيح هو مركز العيد.
أمّا معنى العيد فهو أنّه قَبِل أن يتنازل آخذاً صورة عبد، ووُلد في مغارة حقيرة ليرينا طريق الخلاص، لكي نصبح نحن مستحقّين دعوتَه إلى مائدته في ملكوته.
وهكذا نشرب معه عصير الكرمة الجديد، حيث الاِحتفال الذي لا ينتهي والغبطة الأبديّة لجميع المجاهدين.
طروباريَّة القيامة باللَّحن السّابع
حطمتَ بصليبك الموتَ وفتحتَ للّصِّ الفردوس، وحوَّلتَ نَوحَ حاملاتِ الطيب، وأمرتَ رسلكَ أن يكرزوا بأنّكَ قد قمتَ أيّها المسيح الإله، مانحاً العالَمَ الرّحمةَ العظمى.
قنداق دخول السيّدة إلى الهيكل باللَّحن الرّابع
إنّ الهيكلَ الكلّيّ النَّقاوة، هيكلَ المخلّص، البتولَ الخِدْرَ الجزيلَ الثَّمن، والكَنْزَ الطّاهرَ لْمجدِ الله، اليومَ تَدْخُلُ إلى بيتِ الرَّبِّ، وتُدخِلُ معَها النِّعمةَ التي بالرّوحِ الإلهيّ. فَلْتسَبِّحْها ملائكةُ الله، لأنّها هي المِظلَّةُ السَّماويّة.
الرِّسالَة
أف 2: 14-22
الربُّ يُعطي قوَّةً لشعبِه قدّموا للرّبِّ يا أبناءَ الله
يا إخوةُ، إنَّ المسيحَ هو سلامُنا. هو جعلَ الاِثنينِ واحداً، ونقَضَ في جَسدِه حائطَ السِّياجِ الحاجزَ، أي العداوة، وأبطلَ ناموسَ الوصايا في فرائِضِه ليخلُقَ الاِثنينِ في نفسِهِ إنساناً واحِداً جديداً بإجرائِه السلام، ويُصالِحَ كلَيْهما في جَسدٍ واحدٍ معَ الله في الصّليبِ بقَتلهِ العداوةَ في نفسِه. فجاءَ وبشَّركم بالسّلامِ، البعيدِينَ منكُم والقريبين. لأنَّ بهِ لنا كِلَيْنا التوصُّلَ إلى الآبِ في روحٍ واحد. فلستُم غرباءَ بعدُ ونُزلاءَ بل مواطِنُو القدِّيسينَ وأهلُ بيتِ الله، وقد بُنيتم على أساسِ الرُّسلِ والأنبياءِ. وحجرُ الزاويةِ هو يسوعُ المسيح نفسُهُ الذي بِه يُنسَقُ البُنيان كُلُّهُ، فينمو هيكَلاً مقدَّساً في الرّبِّ، وفيهِ أنتم أيضًا تُبنَونَ معًا مَسكِنًا للهِ في الرُّوح.
الإنجيل
لو 10: 25-37 (لوقا 8)
في ذلك الزمان دنا إلى يسوعَ ناموسيٌّ وقال له مجرِّبًا: يا معلّمُ، ماذا أعملُ لأرِثَ الحياةَ الأبديَّة؟ فقال لهُ: ماذا كُتِبَ في النّاموس؟ كيف تقرأُ ؟ فأجابَ وقال: أحبِبِ الربَّ إلهكَ من كلِّ قلبِك ومن كلّ نفسِك ومن كلّ قدرتِك ومن كلّ ذهنِك، وقريبَك كنفسِك. فقال لهُ: بالصواب أجبتَ؛ إعمَلْ ذلك فتحيا. فأراد أن يُزكِّيَ نفسَهُ فقال ليسوعَ: ومَن قريبي؟ فعاد يسوع وقال: كان إنسانٌ منحدِراً من أورشليمَ إلى أريحا فوقع بين لصوصٍ، فعَرَّوهُ وجرَّحوهُ وتركوهُ بين حيٍّ وميتٍ. فاتَّفق أنَّ كاهناً كان منحدراً في ذلك الطريقِ، فأبصرَهُ وجاز من أمامهِ، وكذلك لاوِيٌّ أتى إلى المكانِ فأبصرَهُ وجازَ مِن أمامِه. ثمَّ إنَّ سامِريًّا مسافِرًا مرَّ بِه فلمَّا رآهُ تحنَّن، فدنا إليهِ وضَمَّدَ جراحاتهِ وصَبَّ عليها زيتاً وخمراً وحملهُ على دابَّتهِ وأتى بهِ إلى فندقٍ واعتنى بأمرِهِ. وفي الغدِ، فيما هو خارجٌ، أخرَجَ دينارين وأعْطاهما لصاحِب الفندقِ وقالَ لهُ: اعتَنِ بأمرهِ، ومهما تُنفق فوقَ هذا فأنا أدفَعُهُ لك عند عودتي. فأيُّ هؤُّلاءِ الثلاثةِ تَحسَبُ صار قريباً للّذي وقع بين اللّصوص؟ قال: الذي صنع َ إليهِ الرحمة. فقال لهُ يسوع: امضِ فاصْنَع أنتَ أيضاً كذلك.
في الإنجيل
تقدّم رجل ناموسيّ من المسيح بسؤال: ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟ (لو 10: 25).
إنّ هذا السؤال تكمن فيه حكمة كبيرة لأنّ الحياة لا يمكن أن تكون إلّا حياة أبديّة، لأنّ الحياة الأبديّة أُعطيت للإنسان كهدف يجب التوصّل إليه وككنز ينبغي البحث عنه، لأنّ الرّبّ يريدنا أن نبذل بعض الجهد لإيجاده.
من سنة إلى أخرى يتزايد عدد النّاس الذين يرفضون الإيمان بالحياة الأبديّة فيموت في نفوسهم آخر بصيص من الأمل فيها.
ولكنّ النفس البشريّة، أكان الإنسان وثنيًّا أو يهوديًّا أو مسيحيًّا، يملأها دائماً الشّوق إلى حياة غير قابلة للفساد والموت.
النعمة التي يبجث عنها الإنسان يطلَق عليها عادةً، في تعابيرنا اليوميّة، مصطَلَحُ "السعادة".
ولكنّنا، في الحقيقة، نحتاج إلى ما هو أكثر من السّعادة لأنّ السّعادة حالة مُوقّتة وقابلة للتغيّر، تعتمد على أسس مادّيّة إلى حدّ كبير. أمّا النفس فتسعى إلى حالة النّعمة.
مَن منّا يتمنّى أن يعيش إلى الأبد هذه الحياة الأرضيّة التي نحن فيها؟ لو سُئل فيلسوف قديم عمّا إذا كان يرغب في أن يعيش حياة أبديّة لأجاب:
"أتمنّى ذلك ولكن بشرط أن تكون حياتي غير تلك التي أعيشها الآن، لأنّ الحياة الرّاهنة لا تصلح للأبديّة".
أي إنّه لا بدّ لنا من أن نتغيّر لنعيش حياة أبديّة.
إنّ الحياة الأرضيّة الحاليّة، لو استمرت إلى الأبد، لصارت، بالنسبة للكثيرين، جحيماً. لا سمح الله أن نعيش إلى الأبد هذه الحياة شبه الحيوانيّة المملوءة بالضّيقات والأتعاب الجسديّة!
أمّا الحياة الأبديّة المعدّة لنا فليست هكذا، وبحسب قول المسيح بعد أن يبلغ النّاس حياة النعمة تلك لن يحتاجوا إلى أشياء مادّيّة أو يتزوّجوا بل "يكُونُونَ كملائكة الله في السَّماءِ" (مت 22: 30) وهُمْ أبناءُ اللهِ، اذ هم أبناءُ القيامة (لو 20: 36).
إنّ تلك الحياة روحيّة متغيّرة منوّرة خالية من الاِحتياجات الجسديّة، يملأها التسبيح والنِّعم الرّوحيّة التي لم تخطر ببال أحد، بحسب قول الرّسول:
"مَا لمْ ترَ عينٌ، ولمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلم يَخْطُرْ على بالِ إنسان:
مَا أعَدَّهُ اللهُ للّذينَ يُحِبُّونَهُ" (1 كو 2: 9).
لاحظوا أنّ الإنجيل يتطرّق إلى موضوع الجحيم كثيراً، وقد أعطانا المسيح كثيراً من الصُّور التي تصفه:
مثل النار التي لا تُطفأ، والدّود الذي لا يموت، وصرير الأسنان، والظّلمة الخارجيّة، والبرد القارس، وذلك لأنْ في حياتنا الأرضيّة يوجد ما يشبه الجحيم.
وأمّا الفردوس فلم يقل الرّبّ شيئاً محدّداً عنه لأنّه لا يوجد من بين المفاهيم الأرضيّة ما يمكن تشبيه الفردوس به، ولا يمكن أن نتصوّره، فلذلك يتحدّث عنه الرّبّ بصورة عامّة فلا نعرف عنه سوى أنّه حياة أبديّة يجب أن نتطلّع إليها بكلّ قدرتنا.
وهنا يطرح سؤال: "يا ربّ، ماذا أعمل حتّى أعيش هذه الحياة الأبديّة؟"، فيسأل الرّبّ بدوره: "ما هُوَ مكتوب في النامُوس. كيف نقرأُ؟" (لو 10: 26). "ماذا وجدت فيها حتى يسترعي انتباهك؟".
فينطق ذلك الناموسيّ بكلمات نعتبرها اليوم وصيّتين رئيستَين للعهد الجديد: "تُحِبُّ الرّبَّ إلهك من كلّ قلبك، ومن كُلِّ نَفْسِك، وَمِنْ كُلِّ قُدرَتِك، ومن كلّ فكرك، وقريبك مثل نفسك" (لو10: 27).أجابَ المسيح: "بالصَّوَاب أجبتَ. افْعَلْ هذا فتحيا" (لو 10: 28). فيسأل الرّجل: "ومن هو قريبي؟" (لو 10: 29).
لا يسأل من هو الله لأنّ هذا الأمر واضح بالنسبة له، لأنّ الله واحد وهو إله الآباء والأنبياء الذي تكلّم مع موسى والذي يخدمونه في الهيكل الأورشليميّ، ولكنّ الجزء الثاني من الوصيّة، الذي يبدو بسيطاً من الوهلة الأولى، يثير سؤالاً.
السّبب هو أنّ اليهود قديماً لم يكونوا يعتبرون الشعوب المجاورة قريبة، بل حتّى أقرباؤهم بالدّم الذين كانوا يشتغلون في خدمة الرّومان، أمثال العشّارين، لم يعتبروهم أقرباء لهم.
وكان يُنظر إلى هؤلاء كأنّهم أحقر من الكلاب ولا يمكن التسليم عليهم والأكل معهم، لأنّ وعي اليهود كان يرسم حدًّا دقيقاً بين قريب وغريب. ولا تزال هذه الحدود قائمة في عالمنا المعاصر حيث نفصل بين ما هو لنا وما ليس لنا، بين قريب وبعيد، إلخ.
فكلّ الدنيا تخترقها هذه الحدود. وردًّا على سؤال حول القريب يقصّ الرّبّ مثل السامريّ الصّالح الذي يعرفه كلّ من قرأ الإنجيل. وفي آخر القصّة يطرح المسيح سؤالاً: "فأيَّ هُؤلاءِ الثلاثة تَرَى صارَ قريباً للّذي وقعَ بينَ اللّصُوص؟" (لو 10: 36).
تجدر الإشارة إلى أنّ اليهود كانوا يكرهون السامريّين إلى درجة أنّه حتّى كلمة السامريّ كانت غير مقبولة بالنسبة للرّجل الناموسيّ فبدّلها بعبارة "الذي صنع مَعَهُ الرَّحمة" (10: 37)، وإن كان يدرك أنّ الرّحمة أتت من السامريّ وليس من أقربائه بالدّم. فقال له الرّبّ: "اذهب أنتَ أيضًا واصنعْ هكذا" (10: 38).
إنّ هذه الوصيّة البسيطة لها أعماق، شأنها شأن كلّ بساطة إلهيّة لها أعماق إلهيّة. إذا نظرنا إلى ورقة شجرة أو زهرة فتبدو بسيطة من الناحية الظاهريّة، ولكن، لو قرأنا عن تركيبها في كتاب البيولوجيا، لفوجئنا بالحكمة الكامنة في ورقة وزهرة وشعرة رأس، والحكاية نفسها مع الإنجيل:
إنّه بسيط مثل الورقة أو شعاع الشّمس، ولكنّه ذو أعماق لا نهاية لها.
التخشّّع أمام اللّه:
ما هو الخشوع؟ ومن أين يأتي؟
لطالما كان الإنسان، منذ فجر التاريخ، عابدًا لإله. إلّا أنّ حياة المسيحيّ هي حياةُ صلةٍ مع الخالق، لذلك نقول في كاطفاسيات السيّدة:
"عيّدوا للخالق دون المخلوق..."، ويقول بولس الرّسول في رسالته إلى أهل رومية: "الذين استبدلوا حقّ الله بالكذب، واتّقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق" (رومية 1: 25).
العبادة المسيحيّة هي كشفٌ إلهيٌّ وديانةٌ حقيقيّةٌ واقعيّة. لقد كشف الله لنا ذاته، ودعانا إلى الاتّحاد به، وهكذا تكون المسيحيّة، مقارنةً بغيرها، تحدّيًا، لأنّها أتحدت الإنسان بالإله بواسطة النعمة.
فالعابد المسيحيّ الحقّ هو واحدٌ مع المسيح الإله الواحد المثلّث الأقانيم. من هنا، أَوجدت المسيحيّة شيئًا جديدًا بعبادتها، صلةً وكشفًا إلهيًّين غير منظورَين من خلال كلّ صلاة، المخلوق يحاور الخالق.
ولولا الإيمان لما كنّا تحسّسنا بوجود الإله بالقرب منّا، ولا كنّا أسقطنا حياة المسيح كلّها على واقعنا اليوميّ عندما نقول "اليوم يولد من البتول..."، و"اليوم علّق على الخشبة..."، و"اليوم نعمة الرّوح القدس جمعتنا...".
هذه هي العبادة، هذان هما الخشوع والرّهبة المقدّسة بسبب تحسّسنا وجودَ الإله قريبًا منّا.
ولا تأتي حالة الخشوع الحقيقيّ أمام الله إلّا بعد جهادٍ، من انسحاقٍ للذّات وخلعٍ لإنساننا العتيق كلّ يوم، بالتواضع واليقظة والتوبة المستمرّة.
قد يحجب عنّا الإله هذا الحسّ، وقد لا نشعر حتّى بلذّة الصلاة لأنّ فعل الصلاة هو فنّ، ويسمّى في الأدب النسكيّ الرّهبانيّ فنّ الفنون وعلم العلوم.
الصلاة في المسيحيّة ليست تمتماتٍ بشريّةً فيها نريح ضميرنا، إنّما هي فعل الرّوح القدس فينا.
لذلك، قبل كلّ صلاة، نستدعي الرّوح القدس، وهو مَن يعلّمنا الصّلاة، ويشفع فينا بأنّاتٍ لا يُنطَق بها. نحن أبناء الله بالتبنّي بواسطة المعموديّة المقدّسة، لكنّنا أيضًا خطأةٌ أمامه وبحاجةٍ ماسّةٍ لرحمته.
لنَقِفْ أمامه، وبصوت العشّار نهتف إليه:ارحمني يا الله. لنَقِفْ بتخشّعٍ صارخين صراخ البنين لأبيهم: أيّها الرّبّ يسوع المسيح ارحمني.
ولنَثِقْ أنّه بهذه الكلمات البسيطة تنحدر الماء على الجزّة. النعمة الإلهيّة ترطّب قلبنا الجافّ بسبب الخطيئة، والقلب الخاشع المتواضع لا يرذله الله كما يذكّرنا داود النبيّ في المزمور الخمسين.
الرّوح المنسحق هو أن ندين أنفسنا ونطبّبها بالتوبة والاعتراف. يشرح القدّيس باسيليوس الكبير أنّ انسحاق القلب هو طردٌ للأفكار البشريّة. ذهننا مشتّتٌ وبالتدريب الصلاتيّ يستكين.
ولذلك رتّبت الكنيسة كلّ هذه الصلوات، وأبقت على صلاة المسبحة كعملٍ دؤوبٍ لتدريب الذهن وتطويعه لخدمة الله.
وفي الأدب الرّهبانيّ هناك ترويضٌ لوثبات الجسد، عبر الصلاة المستمرّة، والسّجدات، والمشاركة بالصّلوات الجماعيّة، وطرد الأفكار بشكلٍ مستمرّ.
ومن هنا تسمية الرهبان الذين يخمدون لهيب الأهواء ووثبات بليعال العقليّ بالصّلاة والأعمال اليدويّة بالهدوئيّين. الإنسان، خارج نظام الله، هو متمرّدٌ أهوائيّ النزعة، ثائرٌ وغضوبٌ، حاقدٌ ومنتقم.
إنسان اليوم يبحث عن السلام، لكنّ هذا السلام يبدأ من داخل الإنسان.
فكيف له أن يقتني الخشوع أمام الله وهو شهوانيّ النزعة، يكثر المآكل والمآدب ويتلهّى بشتّى أنواع التشتّت ويبتعد عن الصّلاة؟ فهذا كلّه يجعل الذهن غليظًا وبطيء الفهم.
أتريد أن تقتني خشوعًا رغم كلّ صعوبات العصر؟ كُنْ مثل والد القدّيس غريغوريوس بالاماس، هذا الإنسان مارس الهدوئيّة في بلاط الملك. يقول سفر نشيد الأناشيد:
"أنا نائمة وقلبي مستيقظ" (5: 2)، أي أنّ الذهن صاحٍ يلهج نهارًا وليلاً بتسبيح الله.
المسيحيّة عشقٌ لا ينتهي لِمَن أحبّنا حبًّا لا حدود له، حتّى أنّه بذل نفسه لكي يخلّص خليقته.
عندما نتذوّقه لن يمكننا أن نأكل سواه. علينا أن نتدرّب رويدًا رويدًا وأن نسلك درب الكمال منذ الآن. إنّنا مدعوّون، متزوّجين وعمّالاً، كبارًا وصغارًا، إلى أن نقبل أدوية الكنيسة خلال مسيرتنا في جلجلة هذه الحياة ومصاعبها.
هذه الأدوية تكمن في أصوام الكنيسة وصلواتها، في كلّ الحياة التقديسيّة التي ترافق جوانب حياة الإنسان منذ المعموديّة، مرورًا بالأسرار الأخرى، وصولاً إلى الموت وما بعده.
مَن أراد أن يكتسب خشوعًا مع دموعٍ وتنهّدات عليه أن ينقّي ذاته أوّلاً، وقد يستغرق ذلك العمر كلّه.
لا ييأسنَّ الإنسان من تكرار المحاولة، ولو أخفق مرّاتٍ كثيرة.
هذا هو الجهاد، بمتابعة الأب الرّوحيّ لحالة كلّ واحدٍ منّا. لا نتقيّدنَّ بشكليّات الصلاة، بل لتَكُنْ نابعةً من القلب. لا نصلّينَّ كالفرّيسيّين لأنّ مثل هذه الصلاة مرذولةٌ أمام الله.
ولا نصلِّينَّ ونحن حاقدون أو غاضبون لأنّنا لن نشعر بفعل الصّلاة ولن نملك خشوعًا.
ولا يأتي الخشوع سريعًا.
قد نتلمّسه ونتذوّقه لبرهةٍ، ثمّ لا نعود تتذوّقه سوى بعد أن نكون قد تطهّرنا من أدران الخطيئة المعشّشة فينا. لنبادرْ نحو الله مثل ابنٍ محبٍّ ومشتاقٍ لملاقاة أبيه وفي الوقت نفسه خجلٍ بسبب أفعاله.
تنحدر نِعَم الله على الإنسان المصلّي فيضحي كعمود نار، وتكون صلاته كفعل النار في الهشيم، تحرق تبن الخطيئة بوقود التوبة والاعتراف والتواضع، فيتنقّى بيدر النفس من كلّ شائبةٍ وتنحدر نعمة الله، فيتخشّع القلب بسبب قوّة حضور الله ورهبته، تمامًا كما حصل مع موسى على جبل سيناء ومع التلاميذ على جبل ثابور، الذين سقطوا أرضًا بسبب قوّة حضور الله، لأنّ الله نارٌ آكلة.
أخبارنا
محاضرة في معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ
برعاية صاحب الغبطة البطريرك يوحنّا العاشر الكلّيّ الطُّوبى، يدعوكم دير سيّدة البلمند البطريركيّ ومعهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللّاهوتيّ في جامعة البلمند إلى محاضرة بعنوان:
"كيف نحقّق إنسانيّتنا بالمسيح؟"، يلقيها الأب جون بيهر أستاذ الآباء في معهد القدّيس فلاديمير الأرثوذكسيّ، نيويورك. وذلك يوم السبت ١٧ تشرين الثاني ٢٠١٨، الساعة السابعة مساءً، في القاعة الاثريّة الكبرى في الدّير (الترجمة الفوريّة إلى اللّغة العربيّة مؤمّنة).