وللإحباط والفشل أيضًا أهداف
[1]
ليس اتّفاقًا ما نصادفه في حياتنا من أمور معاكسة لرغباتنا ومخطّطاتنا ما تجعلنا نقف أمامها حيارى لا نجد لها تفسيرًا ولا جوابًا.
إنّه الفشل الذي يجعلنا نشعر وكأنّ مسيرة حياتنا قد انقلبت رأسًا على عقب، نشعر وكأنّ كلّ أهدافنا قد تحطّمت وانتهى كلّ شيء بالنسبة إلينا. ضيق شديد يستحوذ علينا، كيف لا وقد خسرنا ما كنّا نضع عليه كلّ آمالنا؛ إخماد الهمّة، تثبيط العزم، أفكار سلبيّة تهاجمنا من كلّ جانب، أحاسيس تسيطر علينا لدرجة الاختناق. إنّه الفشل.
بالحقيقة كم هو خاطئ الاستسلام لموقف خاطئ كهذا حيال الإحباط، غير عالمين أنّه لا توجد صعوبة أو ضيق أو فشل يعترض حياتنا إلّا وله هدف محدّد أو قصد معيّن في تدبير الله لنا. فكما أنّ الله، في صلاحه اللّامتناهي، يمنحنا المفرّحات، كذلك يسمح بالمحزنات أيضًا. وكما يجود علينا بفرص النجاح والتألّق، كذلك يجيز للفشل والضيق أن يهذّباننا. إنّها كلّها خيرات مباركة من لدنه، والتي ترمي إلى خيرنا وصلاحنا.
يا لمحبّة الله العظيمة التي لا حدود لها تنسكب علينا جميعًا، وإن كنّا لا نعيها تمامًا. فالله لكونه أبًا عطوفًا يعرف تمامًا أيّ صلاح يفيض علينا، ولكنّنا لا نرى، أحيانًا، هذا الصلاح مباشرة ولا نلاحظه حال حدوثه، وأحيانًا أخرى نلاحظه ولكن بعد حين، وأحيانًا لا ندركه على الإطلاق. فكم من مرّة سمعنا أحدهم يقول: "لحسن الحظ أنّي واجهت هذه الصعوبة أو التجربة، وإلّا لما أدركت عناية الله بي ووقعت في مصيبة أكبر". وكم من مرّة نطق آخر: "يا لحسن الحظ أنّي تعرّضت لهذا العائق الصغير الذي نجّاني من عائق أكبر"، وكم من قائل: أشكر الله أنّي فشلت في هذا المشروع وإلّا لتعرّضت لخطر الموت". وهكذا... نعم، نتفوّه بهذه الأقوال ولكن بعد اجتياز الصعوبة وإدراك منفعتها، ولكن في اللحظة التي نتعرّض لها تكون لنا نظرة أخرى تجاهها: تذمّر، اعتراض، انتقاد، حيرة، تساؤل... لهذا ينبغي علينا، دائمًا، رفع الشكر لله على كلّ ما يسمح به من المحزنات أو من الأفراح، من السيّئات أو الخيرات، من النجاحات أو من الإحباطات..
والآن، ماذا يمكن للفشل أن يعلّمنا؟
1) نتعلّم أن نجابه بصبر وأن نتعب ونجاهد باستمرار وبدون توقّف.
2) نصبح مجاهدين مصارعين كالرياضيّين الذين يجمعون كلّ قواهم وانتباههم في اتّجاه معيّن ليحصلوا على النصر والظفر.
3) نتعلّم أن نضع برنامجًا لحياتنا، تنظيمًا، طريقة، نهجًا، استراتيجيّة معيّنة.
4) يجعلنا أكثر صلابة وتحمّلًا أمام المتاعب والمشاق والمصاعب.
5) يجعلنا ندرك بأنّ الأمور لا تجري، دائمًا، بيسر وسهولة، وأنّ الحياة ليست بالضرورة وفق إرادتنا وتخطيطنا الأمر الذي يفرض علينا تكرار المحاولات.
6) يقمع الفشل أهواءنا ويعطينا المقدرة على ضبط زمامها وكبحها.
7) مع الفشل تُصحَّح النقائص والرذائل.
8) ينشل الفشل، مرّات كثيرة، الإنسان من سبات عميق، فيكتشف أعماقه وما تحويه من كنوز إلهيّة والقوّة الداخليّة التي يملك والتي غالبًا ما كان يجهلها.
9) يجعل الفشل الإنسان يكتشف المواهب والوزنات التي منّ بها الله عليه، فيجنّدها ويوظّفها في سبل متعدّدة تعود عليه بالفائدة.
10) يجعل الفشل الإنسان أن يتجاوز نفسه.
11) مع الفشل يستطيع الإنسان أن يقول (ستوب) لكلّ مسيرة خاطئة، ولكلّ تقدير سيّئ للأغراض التي يستعملها وبالأكثر لنفسه.
12) نتعلّم أن نقدّر الآخرين ونتفهّم أحوالهم وأوضاعهم أكثر.
13) نتعلّم اللجوء إلى الله برجاء أكيد.
14) ولكنّ الفائدة الأكبر للفشل هي نضوج الإنسان، فيدرك حقيقة قدره ويتواضع ويكتسب قوّة أكبر لمعرفة حقيقة نفسه، فلا يعود ينظر غلى الآخرين بتعالٍ وعجرفة.
هل فكّرنا، يومًا، ما هي النتائج التي نحصل عليها إن كانت حياتنا نجاحات متواصلة لا يعتريها شتاء الفشل؟ سنكون مترفّهين، أنانيّين، متفاخرين، فائقي العجرفة، نرجع كلّ تفوّق إلى مقدراتنا وذكائنا وحنكتنا، وبالتالي سنزدري الآخرين، بل وكلّ شيء. ستصبح الأنا صنمًا نعبده، ونجرّ الآخرين إلى مماثلة عبادتنا هذه. وهكذا يصبح النجاح في اقتناء فضيلة ما، أو في تجاوزنا لصعوباتنا دمارًا لنا، ولذلك يسمح الله للفشل أن يطرق بابنا لكي ننجو من هذا الدمار الهائل لأنفسنا.
لقد قال فون براون أحد كبار علماء الطبيعة: "غالبًا ما يكون الفشل بركة". وقال هنري فورد: "الفشل هو فرصة مباركة لبداية جديدة تكون أكثر حكمة وذكاء من سابقتها". وقال آخر: "وراء كلّ فشل يختفي ربح كبير: إنّه الدرس الذي تعلّمته، والذي لا يمكن للنجاح أن يلقّنك إيّاه. يجعلك الفشل فولاذيّ الإرادة، أليس هو بعد ذلك بركة ونعمة؟!!".
لا يجب أن ننسى هذه الحقيقة بأنّ النجاح كثيرًا ما يغشّ ويخدع صاحبه، ويسبّب له المزعجات والضيقات أكثر بكثير من الفشل. فشل واحد يوجد وهو، بالحقيقة، كبير ولا يطاق ألا وهو عدم احتمال المرء للفشل.
ويجدر بنا أن نسوق إليكم ما كتبه القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم بهذا الشأن:
** "ليس الفشل أسوأ من النجاح، فبه نعرف صدق مصلحتنا وخيرنا كما يريدها الله لنا أن تكون. علينا أن نشكر الله على كلّ ما نسأله منه متى حصلنا عليه؛ وأن نشكره كذلك عندما نفشل في الحصول على ما نطلبه منه.
** يجب أن تكون لدينا ثقة كبيرة بخالقنا، وأن نقبل بفرح وامتنان كلّ ما يمتحننا به، وألّا ننظر لما يحدث من ظاهره فقط، بل نتطلّع إلى العمق، إلى ما يخطّطه الله لنا، لأنّه يعرف أكثر منّا ما هو لخيرنا، وهو الوحيد الذي يعرف كيف يدبّر خلاصنا.
** ليكن لك إيمان حي بالله، ولا تفقد شجاعتك ولا تقلق عندما تسير الأمور في الاتّجاه المعاكس لما كنت تتوقّع أو تأمل".
[1] عن مجلّة الزنابق اليونانيّة ta. kri.na. العدد 376. شهر كانون الثاني لعام 2019