نسيان الماضي
"أيّها الإخوة لا أحسب أنّي أدركت لكن أمرًا واحدًا أجتهد فيه وهو أن أنسى ما ورائي وأمتدّ إلى ما أمامي" (فيليبّي 3: 13).
لا تتقوّم حياتنا إن لم نترك الماضي، إن لم نكسر قيوده عن الحاضر وإلّا لغرق مستقبلنا في بحر هذا الماضي. من المؤكّد أنّ كثيرًا من أمور الماضي تبقى عالقة في أذهان حاضرنا، لتشكّل تربة مستقبلنا. للإنسان الإمكانيّة أن يحافظ على الماضي بواسطة الذكريات، كما له الاستطاعة أن ينفصل عنه بواسطة النسيان. فالتوازن بين الذكرى والنسيان أيّ بين ما أنسى وما أتذكّر هو العلامة الصحيحة التي تجعل مسيرتنا قويّة نحو المستقبل.
إن احتفظنا بالكثير من أمور الماضي نضع، طوعًا، في طريقنا العوائق والحواجز التي تجعل خطواتنا تتعثّر. فالذكريات والجراح والعادات التي اكتسبناها في الماضي من الممكن أن تسمّم لنا حاضرنا، ولكنّ اجتثاث جذرونا الكلّيّ من تربة هذا الماضي تقودنا، سواء كنّا أفرادًا أو شعوبًا، نحو الفراغ الداخليّ، إلى غياب أهمّيّة الحاضر وضياع أهداف المستقبل.
النسيان هو أمر ضروريّ لتجديد حياتنا. يحدث النسيان عفويًّا لدينا لكونه من طبيعتنا، وهذا يجعلنا ننسى ما لا أهمّيّة له في يومنا، فتدخل معظم أيّامنا في طيّ النسيان. ولكنّ هناك نوعًا آخر من النسيان وهو ما يتعلّق بوخز الضمير، لأنّنا نريد أن نتجاهله، أن ننساه. فعندما تؤلمنا الذكرى أو تثقل ضميرنا، نصرّ على نسيانها لكونها مزعجة ومقلقة. وهكذا، ننسى الإحسانات المقدَّمة لنا إذ يصعب علينا الاعتراف بالجميل لمن أبداها نحونا. ننسى محبّة الآخر لأنّها لا توافقنا، ثقيلة علينا. ولكن من جهة أخرى، قد ننسى بعض التصرّفات المزعجة لأنّ ذكراها يؤلمنا وتخلق فينا شعورًا معاديًا لمن فعلها. قد ننسى كراهية قديمة لكي لا تسمّم لنا صحّتنا الروحيّة.
هذا كلّه ليس نسيانًا طبيعيًّا لوخز الضمير، بل هي مجرّد إحساسات نصدّها لأنّنا لا نستطيع تحمّل دفنها في أعماقنا. ولكنّ الطبيعيّ والبديهيّ جدًّا أن عدم نسيان وخز الضمير يحرّرنا من مختلف الأمور ولو كانت قليلة الشأن أو مؤلمة، والتي نرغب في نسيانها رغم أنّها لا تتركنا، لإنّ الذكرى قادرة على إحضار كلّ ما هو مأساويّ إلى أذهاننا.
توجد طريقة وحيدة للتحرّر كلّيًّا من كلّ ما يزعجنا في الماضي: التوبة وتغيير العقليّة والأفكار، تغيير الحياة والمسيرة. التوبة هي المرشد الوحيد لنسيان الإدانة، إدانتنا للآخرين، ولا سبيل إلى التحرّر منها إلّا بالاعتراف والغفران أو المسامحة، لكوننا نعلم، حقّ العلم، أنّه بالمسامحة والغفران تُغفر لنا وتُنسى في الأبديّة.
كم نحتاج إلى تنمية هذا النوع من النسيان في علاقتنا مع الآخرين. فمن دون تكرار هذه المسامحة، والتي غالبًا ما تأتي صامتة، لا نستطيع العيش ولا التوافق مع الآخر. تحتوي المسامحة على تناقض ظاهر: أنسى مع أنّي أتذكّر، وبدون هذا التناقض لا يمكن أن توجد علاقة بشريّة صحيحة. قد لا تترجم المسامحة بالكلام، دائمًا، بل قد تكون صامتة، يُعبَّر عنها بقبول ذاك الذي جرحنا وأساء إلينا، وهكذا تشفى جراحنا وتتجدّد علاقتنا معه. لا نستطيع العيش بسلام إلّا إذا آمنّا بأنّ خطيئة الإدانة قد غُفرت لنا بدم المسيح ونُسيت في الأبديّة، ولا نستطيع أن نحبّ إلّا إذا قبلنا غفران الآخر لنا.
هناك قلق ملاحظ عند الكثيرين: الخوف من أن يُنسَوا يومًا ما، وباطلاً يحاول العديدون إبعاد هذا القلق عنهم، إذ لا يحتملون أن يُنسى اسمهم يومًا، وهذا ما يبرّر ارتفاع التماثيل النصفيّة والنصب التذكاريّة للعظماء في الشوارع والساحات. فهل يوجد ما ينقذنا من مثل هذا القلق، أو بالحري، من هذا النسيان؟ نعم. إنّه إيماننا بأنّنا أتينا من الأبديّة وسوف ننطلق، أيضًا إلى الأبديّة، وهذا هو الحلّ الوحيد الذي ينقذنا من أنّنا سنُنسى يومًا.
نحن متجذّرون في الأبديّة، إذًا، لا ما ضي لنا ولا مستقبل، لأنّنا سنكون أحياء على الدوام، مشاركين المسيح في حياته الأبديّة. وهذا يعني أنّ مذ اندمجنا في حياة الكنيسة بمسيرة حارّة مع الروح القدس تتجدّد فينا الحياة الأبديّة، حيث لا نسيان البتّة. وعندئذ، فقطـ، ننسى كلّ ما يجب أن ننساه في الماضي، وبالمسامحة والغفران نتحرّر من قيودنا ونمتدّ بشجاعة نحو المستقبل الذي وضعناه في يد الله. نحن لا نخاف الماضي ولا المستقبل، لأنّ حاضرنا مسجّل في أبديّة الله.