دع عدوّك اليأس عنك للأب نكتاريوس موروزوف [1]
إنّ كلمة "اليأس" واضحة المعاني لأيّ شخص حتّى لو كان بعيدًا عن الإيمان.
اليأس يُحبِط الإنسان، فيعدَم القوّة للمجابهة من أجل خير نفسه وحياته. يرفض الإيقان بما هو أفضل والسعي إليه.
يعتبر المؤمن اليأس موقفًا نفسيًّا غير سليم لأنّه خطيئة أو جريمة أمام الله رغم آلامه. عندما يمرض الإنسان يتألّم جسديًّا وروحيًّا، وقد يتغلّب على هذه الحالة بفضل شجاعته وصبره ورجائه بالله. ولكن إن لم يتصدَّ لوضعه، فماذا يحدث له؟
يصيبه الشلل التامّ وعدم الرغبة والاستعداد في تغيير شيء في نفسه.
أمّا المؤمن، فيعرف أنّه مدعو لجهاد متواصل لا هوادة فيه ضدّ إنسانه العتيق المتداعي المُتهلهل، ضدّ إغراءات هذا العالم وضدّ الشيطان. وبمجرّد التوقّف عن خوض هذه المعركة سيخسرها بالكلّيّة، فإمَّا القتال، إذًا، أو الانهزام، وليس من بديل ثالث.
وأمّا من استسلم لليأس، فإمّا لأنّه توقّف، تمامًا، عن الصلاة والذهاب إلى الكنيسة، أو لأنّ جمودًا ذهنيًّا أصابه. فهو قد يستمرّ في الصلاة، ولكن مع الظنّ بأنّ توسّلاته لن تغير شيئًا. يواظب على حضور الخدم الكنسيّة، على الاعتراف والمناولة، ولكن، فقط، لأنّ هذا فرض وواجب عليه أن يتمّمه. فهنا تتلاشى روح الحياة المسيحيّة لتبقى الروح البشريّة العالميّة فقط.
الثقة بالله لا تترك مجالًا لليأس، ولكن عندما نسقط في حفرته "ندفع الله خارج حياتنا" على حدّ تعبير القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، وهذه هي الخطيئة العظمى، هذا هو الجحود الرهيب. إذ عندما نطرد الخالق، لا بدّ أن ندعو شخصًا آخر ليقيم داخلنا، شخصًا يدمّر قضيّة خلاصنا. يسبّب اليأس خطايا متعدّدة، إذ عندما يتوقّف المجاهد عن القتال يفتح أبواب قلعته للعدوّ، لذلك لا يلبث أن يقع بسرعة كبيرة في إحدى الخطايا، ثمّ في الثانية فالثالثة فالرابعة... لهذا لا يمكننا عزل اليأس عن الخطايا الأخرى.
يدعو القدّيس يوحنّا السلميّ اليأس شيطانًا، فيما يصفه آباء كثيرون بنسيان البركات السماويّة أو جحودها. كما يطلق عليه البعض "العمل المفرط"، فماذا يعني الإفراط هنا؟
قد يعاني شخص نوعًا من الانهيار الروحيّ عندما يعتمد على نفسه وعلى قوّته الشخصيّة، ثمّ يكتشف، فجأة، الحقيقة في أنّه من المستحيل عليه أن يُنقذ نفسه بنفسه. ولكنّه، وبما أنّه لا يعرف كيف يَخلُصُ بمساعدة الله، ولا كيف يتّضع ويضع رجاءه فيه، يقع في اليأس. وقد يحدث، أيضًا، أن يتخلّى الربّ نفسه عن الإنسان لكي يختبر أنّه من دون حضوره ومساندته لا يستطيع شيئًا، ففي هذه الحالات يصبح اليأس علاجًا للكبرياء. وأمّا من يدرك عجزه، ويفهم أنّه لا شيء من دون الله، سوف يخرج سريعًا من هذه الحالة.
يرتبط اليأس ارتباطا وثيقا بالكسل. فالكسول ييأس، واليائس كسول. إنّ أوّل شيطان يوافينا عندما نستيقظ هو شيطان اليأس والكسل، فأنا أشعر بالكسل الطاغي عند النهوض وأثناء الصلاة، أشعر بالشفقة على الذات... ثمّ تهرول الشياطين الأخرى راكضة لمساندة هذه الشيطان. فاليأس كإغراء شيطانيّ قد يصيب الشخص ليس بداعي كسله، بل لكونه مجاهدًا يسعى بحماس نحو الخلاص. فعندما لا يجد العدوّ وسيلة أخرى ناجعة ليقاتل المجاهد، يوجّه ضدّه هذه المدفعيّة الثقيلة. لمثل هذا المجاهد يوجّه القدّيس إسحق السريانيّ نصيحته: "ضع عباءة على رأسك ونم حتّى تمرّ ساعة الظلام هذه".
ولكن يبقى السؤال: على ماذا يعتمد الشخص المتألّم كيلا يقع في اليأس؟
يعتمد على الوضع الداخليّ. فكلّ إنسان هو ضعيف بطبيعته أو جبان، ولكنّ الأهمّ من ذلك شعوره بأنّه خاطئ، فمن لا يتفاخر ولا يدين ولا يسيء، فمن المرجَّح ألّا يقع في اليأس. ومن يواظب على الذهاب إلى الكنيسة والصلاة بعمق والاعتراف والاشتراك بأسرار المسيح المقدّسة لا يدخل اليأس قلبه. وأمّا من يخطئ باستمرار لا ينفكّ يدور في حلقة مفرغة: فهو يائس لأنّه يخطئ، ويخطئ لأنّه يائس. إنّ الأمر يغدو أكثر صعوبة لغير المؤمن، فهو لا يعتقد بإله، وله منطقه الخاصّ في الحياة. وأمّا المؤمن، فرغم كونه خاطئًا إلّا أنّه يعتقد بوجود الله، ولو كان يعيش، أحيانًا، كما لو أنّه غير موجود، فهذا التضادّ بين إيمانه وبين طريقة عيشه غالبًا ما يدفعه إلى اليأس.
يهيمن اليأس، اليوم، على عالمنا الحاضر لتوفّر كلّ ما يريح الإنسان ويحوّله عبدًا للراحة، فيكفيك، مثلًا، أن تحصل على الكثير من خلال الضغط على زرّ في جهاز التحكّم عن بُعد، ما يجعل تكاليف العمل أقلّ، ويحفظ لك، في الوقت نفسه، قوّتك لتستخدمها في مجال آخر كما يعتقد البعض.
ولكنّ هذا الوضع يحوّل الشخص، في الحقيقة، إنسانًا مترهّلًا، مخلوقًا ضعيف الإرادة ما إن يصادف بعض التجارب، التي لا يمكن إزالتها بضغطة زرّ، حتّى يقع في اليأس. يقدم العالم، اليوم، لليائس الترفيه والمتعة لإنقاذه من الكآبة والملل، فيما يدفعه، في الواقع، إلى طريق مسدود، لأنّ الانغماس في الرفاهية يجعل المرء ينسى كلّ شيء بما في ذلك الله، في حين لا يمكنه الاستمرار بهذا إلى الأبد لكونها ليست الحياة الحقيقيّة. لذلك، ما إن يعود الإنسان إلى رشده، إلى الحياة الحقّة، حتّى يشعر بفراغ روحيّ رهيب، مدركًا أنّه فشل في الخروج من اليأس، فيلجأ، إذ ذاك، إلى تعاطي المخدّرات وزيادة جرعاتها إلى أن يتحوّل إلى مدمن، أو يُصاب بالاكتئاب والانكباب على تناول الأدوية.
كلّنا يرتكب الخطايا عينها لمئات المرّات. نتوب، لفترة وجيزة، ثمّ نعاود فعلها من جديد فنيأس. قد يقول البعض: لقد وقعت في خطيئة الإدانة ملايين المرّات، فما الفائدة، إذًا، من توبتي واعترافي؟ دعونا نتذكّر هنا كلمات القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: "أأنت رجل بارّ؟ لا تسقط. أانت مذنب؟ لا تيأس.
إذا أخطأت كلّ يوم، فتب كلّ يوم". الإنسان الساقط يحتاج إلى أن يقوم من سقطته مرارًا وتكرارًا، فيكرمُ الله ثباته في التوبة ويمنحه القوّة للتغلّب على خطيئته.
[1] مقتطفات من المقالة. عن الموقع الروسيّ Provoslave. تعريب راهبات الدير.