بعض أمراض العصر الحاضر
بعض أمراض العصر الحاضر
للأرشمندريت أثناسيوس أنستاسيوس رئيس دير المتيورا الكبير [1]
 
يحتاج المجتمع المسيحيّ اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، إلى الاعتراف والتوبة. لذا، بات من الضروريّ التنبيه وإلقاء الضوء على بعض الجوانب الحياتيّة الخاطئة لإنسان عصرنا، والتي يجهل، تمام الجهل، أنّها تشكّل عصيانًا صريحًا للشريعة الإلهيّة.
مرض خطير يصيب الإنسان العصريّ، وحتّى المؤمن أحيانًا، هو غياب الاستعداد لحمل الصليب الشخصيّ واتّباع المخلّص المصلوب. يريد إنسان اليوم بركة الربّ ونعمته، يرغب بالسلام العلويّ والطمأنينة، يودّ الحصول على إكليل الخلاص، يتطلّع إلى ميراث الفردوس، يكرّم القدّيسين والشهداء، ولكن لا رغبة ولا ميل له، البتّة، بمكابدة القليل من التعب أو المحاولة وبكلمة أخرى الجهاد. فالصوم يزعجه، والإمساك يكدّره، والتجارب والأمراض تقضّه وتقلقه؛ وأمّا احتمال بعض الظلم أو شيء من الاتّهام، فلا مجال حتّى للتفكير بهما، لذا بات الجنوح نحو الراحة والرفاهيّة الفائقتَي الحدّ مع الإسراف الباهظ، في كثير من الأحيان، يؤثّران بشكل محسوس على محطّات حياتنا الروحيّة ويهدّدانها بالخطر. يؤكّد لنا القدّيس إسحق السريانيّ بأنّ: "طريق الله صليب يوميّ. لم يصعد أحد إلى السماء براحة. إنّنا نعلم إلى أين يؤدّي طريق الراحة وإلى أين ينتهي"[2]. ويوافقه ابن سيراخ، فيقول: "يا بنيّ إن أقبلت لخدمة الربّ الإله فاثبت على البرّ والتقوى وأعدد نفسك للتجربة" (سيراخ 2: 1).

غالبًا ما نجد أنفسنا أمام ظاهرة مؤسفة ومحزنة، فقد تتعرّض عائلة ما لمرض أحد أولادها، فبدلًا من أن تتّجه نحو الصلاة والتضرّع والتوبة والاستسلام لمشيئة العليّ لكي تتقدّس بصبرها وتقواها ويتقدّس، بالتالي، ولدها، تسرع طالبة نجدة السحرة والمنجّمين، غير عالمة أنّها بهذا التصرّف المنحرف تسلّم ولدها ليد الشيطان. فمن الأفضل، كما يكتب القدّيس نيقوديمس الآثوسيّ، "من أن يموت الولد ويذهب إلى الفردوس من أن يقع في شبكة إبليس ويكون مصيره الجحيم". والأمر الأسوأ الذي نلحظه لدى بعض المسيحيّين الذين يكتفون بتطبيق إحدى الوصايا السيّديّة، كذهابهم إلى الكنيسة بحكم العادة، وحسب، أو مراعاتهم للصوم تجنّبًا للانتقاد أو المناولة مجاراة للحاضرين.. هو مطالبة الله مقابل ما يقومون به بتأمين حياة سعيدة رغدة، وكأنّهم يقولون له: واحدة بواحدة.

يتّصف إنسان اليوم بثقته الكبرى بمنطقه وأحكامه المستندة إلى العقل. لذا، تراه ينتقد كلّ ما يصادفه وما توحي إليه أفكاره إرضاء لأنانيّته، لا غير، غير مدرك لضرورة الاستسلام للعناية الإلهيّة ولتدخّل الله في الحياة. فمن يعتمد على العقل يعتقد أنّه، دائمًا، على حقّ ويتمّم كلّ أموره بشكل صحيح ودقيق؛ لهذا لا يفتأ يصرّح بأن لا خطايا لديه، وبالتالي ليس بحاجة إلى سرّ الاعتراف ولا إلى رحمة الله. فإلى إنسان كهذا يتوجّه القدّيس سمعان التسالونيكيّ بقوله: "كلّ من يظنّ أنّه بعيد عن الوقوع في الخطايا، فليعلم أنّ هذا التفكير هو بحدّ ذاته الخطيئة الكبرى".

يستعمل الشيطان هذه الخدعة بشكل خاصّ مع الذين يعملون في حقل الصناعة والاكتشافات العلميّة، الذين يثقون ثقة كبيرة بقوّتهم الشخصيّة وبقدراتهم العقليّة، ويعتقدون بأنّ أنجازاتهم وما يصلون إليه من حقائق وثوابت علميّة إنّما يعود إلى ذكائهم وقواهم وخبرتهم. ولكن، ما أن تعترضهم معضلة ما يتجاوز حلُّها العقل كأن يجدون أنفسهم أمام موت أحد أحبّائهم وهم غير قادرين على إنقاذه، أو أمام مرض مستعصٍ لعزيز عليهم وهم عاجزون عن شفائه، حتّى يسيطر عليهم الفشل الذريع، فيقعون في الكآبة وتنشلّ قواهم النفسيّة وحتّى الفكريّة، أحيانًا، ويتّخذون موقفًا مضادًّا من الله؛ وأمّا المخرج الذين يلجأون إليه، فهو غالبًا ما يكون حضن المخدّرات أو المسكر، وأحياًنا في الانتحار.

مرض آخر متفشٍّ في عصرنا بشكل مريع ألا وهو التمركز حول الأنا أو الأنانيّة أو حبّ النفس السبب الأساس لغياب النعمة الإلهيّة من نفوسنا والعلّة الرئيس لانحرافاتنا ثمّ سقوطنا: "الربّ يقاوم المتكبّرين ويعطي المتواضعين نعمة" (يعقوب 4: 6). يعتقد المتكبّر أنّه أفضل من كثيرين غيره، وبأنّ معرفته، سيّان كانت دنيويّة أم روحيّة، مفعمَة بالحكمة تتجاوز معرفة من حوله، لذا فهو لا يولي رأي الآخر أيّ اهتمام، بل قد لا يعتبر وجوده أيضًا؛ هو شخص متسلّط يفرض هيمنته أينما وُجد، لذا يناهض كلّ سلطة وسيادة عليه؛ يزدري القريب والبعيد ويدينه، مضخّمًا أخطاءه، متعاميًا عن فضالئه ومواهبه؛ تحرّكاته مليئة بالمجد الباطل وحبّ الظهور؛ أعماله كلّها مملّحة بالرضى عن الذات والإعجاب بالنفس، لذا فهو يرفض كلّ اقتراح مهما بدا صالحًا أو مقبولًا، ولا يقبل أيّ ملاحظة توجَّه إليه.

من بين الأمور الأكثر خطورة التي تقف حاجزًا منيعًا أمام التوبة، بل العدوّ الأكبر لها، هو رغبة المرء في توجيه نفسه بنفسه، معتبرًا كلّ توجيه آخر أقلّ حكمة من معرفته. إنّه انحراف جسيم في أيّامنا هذه يجعل أمثال هؤلاء الأشخاص الغارقين في خطيئة حبّ الأنا من دون توبة، مقتنعين برأيهم ومتمسّكين بحكمهم الشخصيّ. ولنا مثال على ذلك  بعض المؤلَّفات العصريّة التي تجعل بطلها يقترف جريمة كنتيجة لحياته المأساويّة؛ وإن حُكم عليه بالموت، بعد ذلك، يرفض الحكم بعناد وإصرار مدّعيًا: "لقد كان الحقّ البارحة إلى جانبي. واليوم، أيضًا، الحقّ إلى جانبي، وسيكون الحقّ غدًا إلى جانبي، بل سيبقى، دائمًا، إلى جانبي". من يقتنع بتوجيه نفسه بنفسه يقاسي ويكابد أكثر من الواقعين تحت ثقل المشاكل النفسيّة، فيبدو عصبيًّا، مضطربًا، قلقًا، متطلّبًا ومتشدّدًا في مطالبه، فوضويًّا، غير مستعدّ للاعتراف بالخطأ، وبالتالي غير مستعدّ لطلب السماح إن صدف وأخطأ، وبهذا يضع حاجزًا بينه وبين رحمة الله غير المحدودة.

الأمر الأكثر ترسيخًا للأنانيّة وحبّ الذات هو ملاحظة الآخرين باستمرار أي تمضية الوقت في مراقبتهم، ثمّ انتقادهم علنًا وسرًّا. إنسان اليوم، وبسبب نشاطاته الكثيرة المتعدّدة، يقضي أقلّ وقت في مطالعة الإنجيل المقدّس، أو في محاسبة نفسه وتذكّر ساعة الموت والتي تعتبر الفلسفة الحقيقيّة للحياة الأبديّة وخلاص النفس، أو للاشتراك في حياة الكنيسة وأسرارها. وأمّا الوسائل المتنوّعة لتغذية حبّ الاطّلاع وإثرائه، والتي غالبًا ما تجذب الذهن والنفس بأسلوبأسلوب مثير استفزازيّ، فإنّها تحشوه بشتّى المواضيع لا سيّما بأخبار الآخرين وزلّاتهم وعثراتهم. فإنّ كان إنسان اليوم يصرف وقتًا طويلًا في تتبّع هذه الأخبار حتّى إلى ساعة متأخرّة من الليل، فأنّى له أن يعود، بعد ذلك، إلى نفسه ليحاسبها بذهن صافٍ وتجرّد دقيق؟ وهكذا تضيع ملاحظة الخطايا، ويفقد المرء، شيئًا فشيئًا، مراقبة عالمه الداخليّ، ويكبر جهله بكلّ ما يتعلّق به. لذلك، فإنّ مراقبة الآخرين بوجوهها الثلاثة: الانتقاد والازدراء والاغتياب، صارت مرضًا يزرع البرودة والجفاء والكراهية وعدم نسيان الإساءة بين الناس، بالإضافة إلى هجران النعمة الإلهيّة. فالانتقاد والاغتياب، كما يُجمع آباء الكنيسة، هما من أكبر الخطايا مهما بديا لنا قليلّي الأهمّيّة، لأنّهما يحجبان محبّة الآخر ويضخّمان الأنانيّة، ويصلان بصاحبهما إلى الوشاية والحسد وحتّى القتل. يقول الربّ: "بالكليل الذي تكيلون به يكال لكم" (متّى 7: 2)، فإن كنتم تدينون الغير وتنتقدونه بقساوة، فبقساوة أيضًا سوف يُحكم عليكم.

هذه بعض النقاط التي أردنا تسليط الضوء عليها عساها تساعد القارئ في معرفة نفسه ومحاسبتها بصدق ودقّة قبل ممارستة لسرّ الاعتراف. بيد أنّ النقطة الأهمّ التي نودّ الإشارة إليها ثانية لما تنطوي عليه من خطر جسيم يهدّد بدكّ الحياة الروحيّة من أسسها هي رفض الإنسان توجيه غيره، مكتفيًا بآرائه وقناعاته الشخصيّة ما يحجب عن عيونه معرفة خطاياه، وبالتالي يترسّخ رفضه لسرّ الاعتراف والتوبة. وبكلام آخر يفقد الرجاء بالخلاص وميراث الملكوت العلويّ.
 
 
 
 
 
[1] عن اليونانيّة. من كتاب: Ceiragwgi.a sth. meta.noia) Praktiko.j o`dhgo.j to. `iero. musth.rio th/j evxomologh.sewj) :Ekdoseij 2001)                                               
[2]  المقالة الرابعة. ص 28. الفقرة الثانية.