القيامة للمثلّث الرحمات البطريرك الياس الرابع

القيامة للمثلّث الرحمات البطريرك الياس الرابع[1]
 
الفصح يعني العبور، عبورًا من الظلمة إلى النور، من الألم والحزن إلى الفرح والانشراح، من الكراهية والحقد إلى المحبّة والغفران، من الأنانيّة إلى بذل الذات، من الكبرياء إلى التواضع، من الضياع إلى اللقيا، من العبوديّة إلى الحرّيّة، من الموت إلى الحياة. ليس سهلًا أن نعبر من الموت إلى الحياة! هذا العبور يفترض أن نجتاز طريق الجلجلة، يفترض أن نحمل ثقل الصليب، وأن نسقط تحت ثقله، أن يتصبّب عرق الأوجاع من أجسانا، وتسمَّر أيدينا وأرجلنا وتشقّ الأشواق أثلامًا في جباهنا ونحن مغتبطون داخليًّا وتشعّ أعيننا بضياء الغفران أمام الأعين التي تحدّق إلينا حقدًا وكراهية وتشفّيًا وانتقامًا، وتنفتح قلوبنا بالمحبّة لتحتضن إنسانيّة شريدة تائهة ملجنة معربدة في كأس هزئها وسخريّتها، وأن تطعن جنباتها بحراب فتنشقّ على عالم كلّه حبّ ورحمة وإنسانيّة أن نكفر بذواتنا.

1-(2).jpg
"من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه وليحمل صليبه ويتبعني"، إلى أين يجب أن نتبعه، وما معنى الكفر بالنفس؟ هناك حقيقة واحدة لا حقيقة غيرها، ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟ من ملَك العالم لايعني أنّه ملَك نفسَه، وأمّا من مَلَك النفس فقد ملك الدنيا، جعلها عجينة بين يديه، يخلق منها تماثيل تمور بالجمال وصورًا تتحرّك بالروعة. الكفر بالذات يعني امتلاكها. لكي تكسب الدنيا يجب أن تتركها، إذا تركتها جرت وراءك، طاردتك شوقًا، انصاعت إليك، شعرتْ أنّها مرتبطة بك، أنّك سيّدها وقائدها إلي حيث أُعدّ لها بك. في هذه الحالة تكون مالك نفسك وسيّدها، مالكًا لظفرك، مالكًا لقيامتك تعمل بوحي منها وتحقّق لنفسك كلّ معطياتها الروحيّة والفكريّة، في عالم خُلق ليكون موطئ قدمٍ لك، لصعودك الحرّ إلى السدرة الإلهيّة، ولعبورك الخلّاق إلى المعرفة الكلّيّة.


العبور من الموت إلى الحياة عبور داخليّ يفرض صراعًا عميقًا مضنيًا لتقرير المصير. من هناك كان طريق الألم ضروريًّا والمتزيق شرطًا لازمًا. الوجع البشريّ لا يلعب دورًا مهمًّا في عمل الخلاص، الألم الروحيّ الحاصل من الشعور بضرورة الانعتاق والتحرّر هو الألم الخلّاق الذي ينتهي إلى ثمرة الصليب. الإرادة وحدها لا تستطيع أن تبتّ بمصيرها الأزليّ، بدون النعمة الإلهيّة يكون فعل الإرادة محدودًا في عالم الأرض، النعمة الإلهيّة هي منبع الحياة، لا حياة للنفس والجسد بدونها... الإرادة التي تعمل مستقلّة وبمعزل عن الروح القدس تنتهي إلى الموت، أمّا الإرادة التي تقفل أبوابها على العالم لتفتحها على عالم النعمة، تستنزل كلّ الثالوث ليجعل مقامه عندها، يحيي أمواتها ويصقلها بالنور ويرفعها إلى حيث يجب أن تكون نورًا في النور وحياة في الحياة ومواطنة من مواطني الملكوت...


مات المسيح باختياره ثمّ قام، لنموت نحن بإرادتنا وعقلنا وخيالنا ونقوم ونتمتّع بظفر القيامة ومجدها. قيامة المسيح هي قيامتنا نحن الساقطين في الخطيئة، المسيح لا يحتاج إلى أن يقوم، المائتون يحتاجون إلى القيامة، المسيح هو القيامة هو الحياة، إنّه هو هو منذ الأزل، الطاهر، القدّوس البريء من الدنس، البهاء الكلّيّ، والقدرة الكلّيّة، به كان كلّ شيء وبغيره لم يكن شيء ممّا كان. إنّه المجد الذي لا مجد سواه والقدرة التي لا قدرة غيرها، به نحيا وبدونه نموت. يكره الظلمة لأنّه نور!

نزوله إلى الأرض وموته استهدف القضاء على الظلمة، وغمر كلّ خليقته بالنور لأنّه النور الحقيقيّ الذي ينير ويقدّس كلّ إنسان. إنّه النور المشرق في الظلمات ولا تشغاه الظلمات. الله يكره الخطيئة لأنّها ظلمة، الظلمة تتنافى مع جوهر ألوهيّته، لا مكان للظلمة حيث يكون الله، ولا الله حيث تكون الظلمة. القيامة هي بداية حكم النور، بزوغٌ مقدّسٌ لعالم تلده قداسة النور.

يجب أن يموت العالم إذا أردناه أن يحيا، يجب أن يبقى في الموت إذا أردناه أزليًّا، الميت في العالم حيّ في الله، والحي في العالم يخسر الحياة مع الله، تفلت الدنيا من بين يديه. نحن الذين أوجدنا الموت، فعلينا أن نبطل حكمه علينا، نقضي على تحكّمه بنا إذا أحببناه، إذا جعلناه طريقًا نسلكه، رفيق دربنا إلى القيامة.

إذا أحببناه غيّرنا طبيعته، أنرناه بقداسة مقصدنا أفقدناه ظلمته، أنانيّته وكبرياءه وإعدناه إلى الحياة. الموت خطيئة مرميّة تتعذّب، الأنانيّة والكبرياء هما الخطيئة انفلتتا من تصوّر خاطئ، فسقطتا في إرادة ظلمتهما، علينا أن نشعلهما بنار محبّتنا، نصهر عتوّهما ببوتقة التواضع لتعودا إلى بهاء النور. لا شيء أقوى من الموت غير المحبّة. المحبّة لا تبيد، المحبّة تجذب، توحّد، المحبّة تغيّر معنى الموت، تجعله طريقًا مسلوكًا للتجلّي المقدّس، إذا أشعلنا الموت بنار حبّنا أصبح سناء في عيوننا وبهجة في قلوبنا. علينا أن نجعل محبّتنا تغمر الدنيا لتقوم وتعيد بهجة القيامة.

إذا أردنا للعالم سلامًا وطمأنينة علينا أن نجتثّ جذور الموت من أساسها. جذور الموت هي المعصية والكبرياء والبغضاء، الأقوى منها هي التواضع والطاعة، إذا سادت هذه الفضائل، إذا اعتمدنا في جرنها غيّرنا ذواتنا، قمنا من أجداثنا وتركنا أكفاننا ميراثًا للملائكة يتوسّدونها في القبور المفتوحة على عالم المجد. وحتّى نبقى في قيامة دائمة، علينا أن نُبقي أجسادنا مطروحة في لحد التوبة والتواضع، لينزل إلينا الله ويدخلها فيتّحد مع أرواحنا الميتة ويقيمها فنرى مجد قيامته السرمديّة من خلال قيامتنا.


أين العالم من روعة القيامة؟ لا يزال بعيدًا عن نورها ولا تزالا الأهواء تتلاعب وتتحكّم به، يُسخّر عقله وروحه وخياله لمشيئة الموت فلا يحصد غير الفناء، يبني ويهدم ما بناه لتبقى حياته هباء تتحكّم به عواصف الصحاري. أين العالم من المسيح الناهض من بين الأموات؟ أين آلامه وأوجاعه وعذاباته؟ أين دموعه التي سكبها والماء الذي خرج من جنبه ليطهّر وسخ الأجساد وقذارتها، أين الدم الذي أريق ليغذّي النفوس الجائعة إلى الحياة؟ أين صوته الدافئ بالمحبّة والرحمة؟ أين تلك النظرات الموّاجة بالغفران؟ أين تلك الأنامل التي تلامس الأوجاع وتسكب في الجراحات ينابيع الطيب؟ أين الذراعان المشدودتان تستدعيان العالم إلى الصدر الفسيح حيث كلّ أناشيد السماء؟ أين هو؟ الطريق طريقه والحياة حياته والحقّ حقّه. كلّ هذه تضيع اليوم في وديان النفوس الضعيفة والإرادات المحمومة والخيالات المريضة، تبقى كلمات لا تجد لها صدى في العقل الذي تحجّر، فعبد الحجارة والأوثان التي خلقها.


سيبقى الإنسان ابنًا للموت ما دام مريضًا روحيًّا، مرض الروح هو مرض الإنسانيّة، ضياعها هو نتيجة لغربتها عن حقيقة الحياة الروحيّة، عن أبعاد الحياة والقصد من الوجود، لم يوجد الإنسان ليموت بل ليحيا! إلّا أنّ الإنسان الذي يجب أن يحيا هو الذي يدفن نفسه بالتراب ليضيع فيه. لن تستقيم الدنيا إلّا بالحقّ، كلّ شيء مشوَّه بدون المسيح، كلّ شيء مظلم بدون نور القيامة. القيامة الإلهيّة ثورة على كلّ ظلم وتعسّف وكبرياء وأنانيّة، يجب أن يصبح العالم كلّه نشيد قيامة. لم يبقَ في يد الإنسان إلّا الموت تُقدَّم له الحياة على كفّ الإله فيرفضها، مفضّلًا هدايا الخطايا التي يقدّمها هو لذاته ليدمّرها.


... فأهّلنا يا ربّ أن نكون من أبناء قيامتك، أنر عقولنا وأفكارنا وأرواحنا وقلوبنا بنور انبعاثك العظيم. اخلعْ على أجسادنا نقاوة جسدك، وعلى أرواحنا طهارتك، وعلى عقولنا براءتك. زوّدنا بحبّك المبدع. علّمنا كيف نصلب ذواتنا لنقوم معك. بلّل شفاهنا بمياه نعمتك لنرتّل وننشد تسابيح النصر والظفر. أعطنا أن نراك في مجدك الإلهيّ.

وحّد قلوبنا بالمحبّة لنؤلّف جوقة من جوقات سلامك، علّمنا كيف ننطق باسمك وكيف نتّحد بك. لقد أبعدناك عن قلوبنا ولم تبقَ إلّا اسمًا جافًّا على شفاهنا الترابيّة، ما أكثر الذين يتلفّظون باسمك، وما أندر من يفعل أفعالك. لقد صارت تعاليمك سطوحًا ومماحكات عقليّة وثورات عاطفيّة. فاقترب منّا يا الله، اقترب، اقطن في نفوسنا، اغمرنا بمياهك النقيّة، جلببنا بنور قيامتك حتّى نتغلّب على ما في نفوسنا من أهواء وغايات، وبذلك نغلب معك العالم محقّقين الفرح السرمديّ الذي قصدته بتجسّدك وقيامك المجيدة.
 
 

 
[1]  البطريرك الياس الربع (معوّض) بطريرك العرب. صفحات من خلجات قلبه وفكره ويراعه. جمع وإعداد اليان جرجي خبّاز 2017. مقطتفات من المقال.