"إنّما الحاجة إلى واحد" (لوقا 10: 42)[1]
في 3/8/2024
 
 
         لا شكّ أنّ هناك مطلبًا أساسيًّا لكلّ مؤمن لا يجب أن يسعى وراء غيره أو أن يتناساه ألا وهو خلاص النفس. ففكرة خلاص النفس أشغلت قلب الله حتّى قبل أن يخلق العالم، وصارت التطلّع الوحيد الذي يعمل في سبيل تحقيقه. يا لها من كرامة يفخر بها الإنسان، أن يكون محور تفكير خالقه!! لقد ارتضى هذا الإله المحبّ أن تخدم الإنسانَ ملائكةٌ: "أليس جميعهم أرواحًا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عبرانيّين 1: 14).
         من أجل خلاصنا سُرّ الآب أن يدعى صخرة الخلاص: ".. فرفض الإله الذي عمله وغبي عن صخرة خلاصه" (تثنية الاشتراع 32: 15)، إله الخلاص: "يا ربّ إله خلاصي.." (مزمور 88: 1)، فاعل الخلاص: "الله ملكي منذ القدم فاعل الخلاص في وسط الأرض" (مزمور 74: 12)، وبهذا الاسم، أيضًا، جاء الابن إلى العالم لابسًا جسدًا: "فستلد ابنًا وتدعو اسمه يسوع لأنّه يخلّص شعبه من خطاياهم" (متّى 1: 21). وبالفعل، فبآلامه وجراحاته وموته على الصليب صار لكلّ من يؤمن به يطيع إرادته القدّوسة سبب خلاص: "صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبديّ" (عبرانيّين 5: 9).2-(2).jpg
         ولكن، حتّى ولو شغل الأقانيمَ الثلاثة للثالوث الأقدس خلاصُ الإنسان، يبقى هذا الخلاص متعلّقًا بإراته الخاصّة. فإن لم يرغب المرء في خلاصه ولم يطلبه من المسيح مخلّصه؛ إن لم يجاهد مستندًا إلى قوّة النعمة الإلهيّة لكي يطبّق الوصايا السيّديّة، فإنّه لا يخلص، ولا يفيده المسيح كمخلّص شيئًا البتّة. وبالتالي، فإن ازدرى محبّة الربّ ورحمته تتخلّيان عنه وتدينانه يوم المحاكمة؛ وموت المسيح الذي صار للآخرين سبب خلاص أبديّ، يتحوّل له سبب عقاب أبديّ، ويكبر هذا العقاب بمقدار ازدرائه لصلاح الله وطول أناته: ".. أن تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته غير عالم أنّ لطف الله إنّما يقتادك إلى التوبة. ولكنّك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة" (رومية 2: 4-5).
         إن كان الإنسان لا يجاهد هو نفسه من أجل صلاح نفسه، فمن هو المُلام؟! بل، بالحري، من هو المسبّب العقاب؟! لقد قدّم المسيح للبشر حياته ضحيّة، ولا يزال يقدّمها في كلّ ذبيحة إلهيّة؛ يهبه، كلّ يوم، الحياة والصحّة وكافّة متطلّبات الحياة المادّيّة والوسائل الروحيّة؛ يقرع، بإصرار، كسائل ومتسوّل باب قلبه: "هاأنذا واقف على الباب وأقرع" (رؤيا 3: 20)، فماذا يريد هذا الإنسان أيضًا؟! وكما قال أحد القدّيسين: "لو افترضنا أنّ ألله أراد أن يعمل شيئًا لنفسه لا يجد ما يعمله أكثر ممّا قدّم للإنسان!!!".
         لا يبرَّر من لا يهتمّ بنفسه الخالدة. لا أحد يبرَّر إن لم يعمل ليتخلّص من المآزق المهلكة التي تنتظره في الأبديّة. لا أحد يبرَّر لإهماله وفتوره مهما حاول التملّص من ذلك. فإن كان تمسّكه بأفكاره ومشيئاته، وإن كان استسلامه للقنوط والحزن في مجابهة الحياة يطرحانه في فراش الاكتئاب مشلولًا عاجزًا، فلماذا لم يتدارك الأمر قبل وقوعه؟ لماذا لم يكرّس جزءًا من وقته لمطالعة الكتاب المقدّس أو الصلاة، لكي تولد داخله حياةٌ جديدة صحيحة ينتج عنها قرارات صحيحة بحسب مشيئة القدّوس، والتي سوف تساهم في إحيائه ليس نفسيًّا، فقط، بل تمدّ الجسد، أيضًا، بالقوّة لكي يتمكّن بها من إتمام واجباته؟!!
         انظروا، مثلًا، ربّ عائلة يركض لاهثًا طول النهار لتأمين الحاجيّات الضروريّة لعائلته، وإن أراد أخذ قسط من الراحة لجأ إلى الوسائل الترفيهيّة الدنيويّة. وأمّا إن اقترحت عليه تكريس بضع دقائق في اليوم لنفسه لأجابك: "لا فرصة لديّ ولا قت، فأنا كما تراني مشغول جدًّا بتأمين متطلّبات حياة باتت صعبة معقّدة". فلو افترضنا أنّ هذا الرجل تعرّض لحادث سبّب له إعاقّة جسديّة أوقفته عن إتمام مشغوليّاته، فهل سيجد الفرصة، بعد ذلك، للاهتمام بنفسه الأثمن من كلّ شيء؟!! وإن وجد الفرصة، هل سيكون قادرًا جسديًّا أو عقليًّا أو حتّى نفسيًّا على تعويض ما فاته؟!
         وماذا نقول عن ربّة أسرة تنهمك في إنجاز الأمور البيتيّة، وتدّعي أن لا وقت لها لصلاة قصيرة أو قراءة فصل من الإنجيل يستغرق عدّة دقائق. بينما لو زارتها إحدى المسؤولات عن دور الأزياء لتعرض عليها آخر ما وصلت إليه الموضة، ستجد، من دون أدنى شكّ، الوقت المتّسع، الذي قد يستغرق الساعة، للاتّفاق على ما يناسبها. فمن أين وجدت الوقت للتشاور والتحاور؟! هل الأزياء البالية التي قد ترميها غدًا أثمن من نفسها غير البالية الخالدة؟! لن نكون مجحفين، إذ بالفعل قد يكون الوقت ضيّقًا، ولكنّنا نستطيع الاستناد إلى مقولة الجامعة: "لكلّ شيء زمان ولكلّ أمر تحت السماوات وقت" (جامعة 3: 1).
         ثمّ ماذا نقول عن أولئك الغارقين في مختلف الأهواء؟ الواحد غارق في بحر حبّ المال لا يشبع منه حتّى يستهلكه المال نفسه! وآخر لاهث ورءا الشهوات والمتع الدنيويّة لا يكفّ عنها حتّى تكفّ هي عنه عند الموت! وثالث ساع وراء المجد والشهرة لا يني عن تحطيم غيره للحفاظ على مركزه. وغيره يهتمّ بما وصلت إليه التكنولوجيا من اكتشافات وأبحاث، فتمتصّ أعصابه وقواه... وعليه صدق النبيّ إشعياء حين قال: ".. قد عثرنا في الظهر كما في العتمة. في الضباب كموتى. نزأر كلّنا كدبّة وكحمام هدرًا نهدر. ننتظر عدلًا وليس هو وخلاصًا فيبتعد عنّا. لأنّ معاصينا كثرت أمامك وخطايانا تشهد علينا لأنّ معاصينا معنا وآثامنا نعرفها. تعدّينا وكذبنا على الربّ وحِدْنا من وراء إلهنا..." (إشعياء 59: 10- 13).
         لنفترض أنّه وقع ذات ليلة حريق في أحد المنازل، فاستفاق صاحبه ليجد البيت مزنَّرًا بألسنة النيران وغرفته محاطة بالدخان الخانق بحيث عاد لا يستطيع تمييز ما فيها، ومع ذلك فقد بقيت له فرصة للنجاة. أمّا هو، فانشغل بما سينقذ من منزله وماذا سيأخذ معه، وهكذا صار يروح ويجيء دون أن يتّخذ القرار الأهمّ أي نجاة نفسه من الموت حرقًا. ولكن، للأسف، كانت ألسنة النار أسرع منه، فالتهمته! فماذا قال عنه الآخرون؟ إنّه غبيّ وجاهل! ولكن، أليس جاهلًا، أيضًا، من لا يضع أمام عينه هدف الحياة الحقّة؟ أليس غبيًّا من لا يهتمّ بما هو الأهمّ ويؤثره على ما هو مهمّ؟! إن كان ذاك الرجل قد تعرّض مرّة للحريق، إلّا أنّه يوجد الآلاف الذين يتعرّضون كلّ يوم للحريق نفسه وهم لاهون عابثون لا يدركون ولايفهون المخاطر التي تنتظرهم، حريق أبديّ يفقدون به حياتهم وخلاصهم: "لأنّ شعبي أحمق. إيّاي لم يعرفوا. هم بنون جاهلون وهم غير فاهمين. هم حكماء في عمل الشرّ ولعمل الصلاح مايفهمون" (إرميا 4: 22).1.jpg
         يتوجّه المسيح الذي أراق دمه الكريم من أجلك إليك ناصحًا: "هوذا الآن وقت مقبول، هوذا الآن يوم خلاص" (2كورنثوس 6: 2). هو يرجوك بمحبّته اللّامتناهية أن تسلك درب الخلاص، فهل ستبقى لامباليًا، لاهيًا؟ استيقظ. تب. فكّر بخطاياك. قد تدّعي أن لا خطايا لك، ولكنّي أقول لك يكفي إهمالك الذي سيفقدك الحياة الأبدية ليكون الخطيئة الكبرى التي تعاني منها. توجّعْ على نفسك. أسرع إلى حضن المسيح. أسرع إلى العذراء مريم وإلى شفيعك وملاكك الحرس، فأنت بحاجة ماسّة إلى صلواتهم ومعونتهم. اعترف بتواضع وانسحاق قلب، وتذكّر أبدًا قول الربّ: "إنّما الحاجة إلى واحد" (لوقا 10: 42).
 
[1] عن نشرة مارتيريّا اليونانيّة.