نكران المسيح للراهب نيقولاي ستينهارت[1]
سأحدّثكم اليوم عن النصّ الإنجيليّ الذي لم يرد في كلمات مشجّعة مُحبّبة، إنّما نجد فيه عبارات مصاغة بلهجة شديدة ومباشرة: "من اعترف بي أمام الناس، أعترف به أمام أبي الذي في السماوات، ومن أنكرني أمام الناس أنكره أمام أبي الذي في السماوات" (متّى 10: 32-33). "من أحبّ أباه أو أمّه أكثر ممّا يُحبّني فلا يستحقني. ومن أحبّ ابنه أو ابنته أكثر ممّا يُحبّني فلا يستحقني. ومن لا يحمل صليبه ويتبعني فلا يستحقني. من حفظ حياته يخسرها ومن خسر حياته من أجلي يحفظها" (متّى 10: 37-39). وهناك نصٌ آخر لدى الإنجيليّ (لوقا 14: 26-27) يكمّل النصيّن الأوّلين وله ارتباط مباشر بهما: "من جاء إليّ وما أحبّني أكثر من حبّه لأبيه وأمّه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته، بل أكثر من حبّه لنفسه، لا يقدر أن يكون لي تلميذًا. ومن لا يحمل صليبه ويتبعني لا يقدر أن يكون تلميذًا لي".
يا لها من كلمات غريبة ورهيبة لا بل ومرعبة! كيف ونحن نعلم بأنّ الربّ يسوع صالح ورؤوف ويكرز لنا عن المحبّة، وقد جعلها محور تعليمه وجوهر كلّ إيماننا، لا بل هو نفسه محبّة، وها هو، فجأة وبطريقة غير متوقّعة، يعلن لنا عن الكراهية، وكأنّه بكلامه يدفعنا لكي نكره أخصّاءنا: الزوجة والأولاد والأهل والأخوات والإخوة، وحتّى ذواتنا فكيف يحدث ذلك؟ يصعب عليّ، بالحقيقة.
ليس علينا أن نفهم النصّ الإنجيليّ بحرفيّته إنّما بعمقه. ومعناه الأساس يُطابق التعليم المسيحيّ الصحيح، ويدعونا إلى أن نحبّ الزوجة والأخوة.. ولا يطلب منّا الربّ أن نكره ذواتنا، إنّما أن نبغض الخطيئة التي تسكن فينا. هناك حالة واحدة، فقط، تحثّنا على أن نكره ذواتنا وأخصّاءنا، وذلك عندما نزمع على اتّخاذ قرار حاسم يمسّ موضوع إيماننا، إذ يكون، حينها، إمّا رفض المسيح أو إعلان إيماننا به. عندما يُطلب منّا الكشف عن إيماننا وهويّتنا المسيحيّة، هنا نجابه أوقاتًا خطيرة ومصيريّة، وعلينا، عندئذ، أن نقرّر بماذا نعتقد وبمن نؤمن. لا يجب، في هذه الحال، أن يمنعنا الأولاد ولا الزوجة.. عن الشهادة لأجل المسيح والمناداة به بقوّة وبأعلى صوتنا.
يقول البعض: "ماذا أستطيع أن أفعل؟ أو ماذا تنتظرون مني أن أتصرّف؟ لديّ زوجة وأطفال صغار وأهل مسنّين وهم بحاجة لمن يُعيلهم.. ليس لي خيار. فأنا، بإرادتي أو عن إرغام، أستطيع أن أنكر المسيح، أقلّها من الناحية الشكليّة وباللفظ، فقط، في حين أبقى على إيماني في داخلي". هذا مفهوم خاطئ وبعيد كلّ البعد عن المنطق المسيحيّ الصحيح. التفكير المسيحيّ الحقيقيّ المطابق والأمين للنصّ الإنجيليّ وللربّ هو عندما نقول: "رغم أنّه لديّ إمرأة وأطفال ... فأنا لا أنكر المسيح، وسوف أشهد له دون أيّة حسابات أخرى، ولا أحبّ أحدًا آخر في هذا العالم سواه وحده. لست متعلّقًا بشيء أكثر من تعلّقي بالمسيح. أحبّ عائلتي وأهلي، ولكنّهم لن يشكّلوا عائقًا أمام محبّتي للمسيح. أحبّ ذاتي، ولكنّ الأولويّة للمسيح، ولا أريد أن أعطي أخصّائي الذين أحبّهم سوى المثال الصالح، لئلّا يخجلوا بي في يوم الدينونة.
يقول البعض الآخر: "إنّي لا أنكر المسيح، بل أحبّه وأشهد له وأكرّمه إنّما في قلبي، أي في الخفاء، إذ لا يُناسبني أن أعلنه بالفم الملآن وبالصوت العالي". ثمّ يتساءل: "أليس الأساس هو الإيمان بالمسيح والاعتراف به في داخلنا وأعماقنا؟ وما هو الكلام سوى مجرّد شكليّات سطحيّة تتبخّر وتضيع في الهواء؟". هذا لا ينمّ، بالكلّيّة، عن إيمان فعليّ، ولا صلة له بالتفكير المسيحيّ. إحذروا من تفكير كهذا، لأنّ الإيمان الحقيقيّ العميق والمحبّة المسيحيّة التي لا يُباح بهما عاليًا وبقوّة يسمّيان مُرءاة. إنّه إيمان كاذب لطالما لم نعلنه صريحًا خجلًا أو خوفًا. هو إيمان داخليّ ضعيف معشّش في الداخل غير نزيه ولا مستقيم. الشهادة الداخليّة جيّدة من أجل تقدّمنا الروحيّ، لكنّنا لكي ننال الخلاص توجب الشهادة الخارجيّة بالفم والكلمة. لا تكفي المحبّة والإيمان القلبيّ، يجب أن تكون لكم الشجاعة، أيضًا، لتشهدوا للمسيح علنًا ودون خوف من أيّة مخاطر مهما كانت كبيرة.
تكلّم كاتب روسيّ مُعاصر عن حلّ واحد، فقط، للخروج من ضيقة شديدة، أو للتخلّص من خطر كبير، أو للتحرّر من كره ذواتنا، أو من وقوعنا في الندم والمرارة واليأس من جرّاء تلفظنا بكلام قاس، فالحلّ، يقول الكاتب، هو "بأن نعتبر ذواتنا مائتين. عندما نتخيّل أنفسنا بأنّنا راقدون لن يُزعجنا أي خطر، البتّة، ولا يعود يُخيفنا شيء، ولا نعود نهتمّ سوى بإيماننا... ليس لي درب آخر سوى أن أختار المسيح وأموت معه ولا أنكره أبدًا".
علينا ألّا نساوم على أيّ شيء في هذه الحياة مقابل محبّة المسيح لا العائلة ولا الأهل ولا الخيرات ولا المكانة الاجتماعيّة ولا الحياة بجملتها. وماذا عن الكلام، هل يفعل في النفوس ويحركّها للاعتراف الحسن؟ هل يجب أن نوليه أهميّة ونعطيه الأولويّة أم نعتبره مجرّد ألفاظ وعبارات تذهب في الهواء؟ أقول لكم نعم، إن الكلمة مهمّة وقويّة تنفذ إلى القلوب، وتدفعنا إلى التعبير عن إيماننا دون وجل ولا خجل. يقول الشاعر ألكسندرو فلاشوتسا ( كاتب روماني 1858-1918): "لا يكفي أن نؤمن بالقلب بما نعتقد به، إنّما يُطلب منّا إعلانه أمام الجمهور، فالأمر لا يتوقّف على بعض الكلمات والعبارات المجرّدة. تختلف الشهادة بالصوت المسموع عن أي شيء آخر، فهي تبنٍّ لموقف معيّن، أو الكشف عن حقيقة في ذواتنا وعن اتّجاهنا وهويّتنا". ما المعنى لوجودنا في هذا العالم وكيف نحدّد ذواتنا وميولنا؟ لا نستطيع أن نكون مع الله ومع العالم في آن واحد. يجب أن نعلم بماذا نقبل وماذا نرفض. إن كنّا، فعلاً، مع المسيح علينا أن نعرف كيف نقبل الألم، الفقر، الصليب، والموت أيضًا، والذي هو في أيّامنا الحاضرة أمر صعب للغاية.
كان الملوك الرومان في الماضي يضطهدون المسيحيّين ويطلبون منهم تحت التهديد بالموت أو بالعذابات الرهيبة لكي ينكروا المسيح ويسجدوا للاصنام. أمّا اليوم، فقد اختلفت الأمور، فالمسيحيّون ليسوا مهدّدين بالموت والعذابات، ولا يُطلب الكفر العلنيّ بالمسيح. ولكن هذا لا يعني أنّ موضوع نكران المسيح لم يعد موجودًا، بل اتّخذ طريقة أخرى غير مباشرة. ننكر المسيح، مثلًا، عندما نؤمن بعقيدة أخرى ملحدة، أو نشترك في اجتماعات لادينيّة متطرّفة، أو نختبر بطرائق متعدّدة حركات ونشاطات تجحد الله. أو عندما نخجل من رسم إشارة الصليب على ذواتنا، أو نخشى من أن يرانا الآخرون ندخل الكنيسة، أو عندما نتلفّظ بكلمات تخصّ الدين ونتحاشى القيام بحركات ليتورجيّة كالسجود أمام الإيقونات المقّدسة. وبالاختصار كلّ ما يكشف عن هويّتنا المسيحيّة.
عندما يُطلب منّا نكران المسيح وإن كان بشكل غير مباشر، جيدٌ لنا، عندئذ، أن نكره ذواتنا وعائلتنا وكلّ خيراتنا حفاظًا على إيماننا. علينا أن نشهد للمسيح مهما كلّفنا الأمر من تضحيات، وبهذا نختبر محبّتنا وأمانتنا له. هذه هي الدينونة على الأرض.
يطلب المسيح منّا الشجاعة والثبات والنظر إلى الصليب، فيما نحن نهرب من الفشل والضيق والمتاعب، ونبتعد عن الألم والخسارة والبلبلة. نعم، يا أخوتي المسيحيّين، يجب أن تسير الأمور مع المسيح بجديّة وحزم في الحياة كما في الموت. ليست المسألة مجرّد ألعوبة، ولا هي مزاح، بينما يفرض المسيح علينا الشجاعة والثبات وقوّة المقدرة في اعتناق الصليب. لا يجب أن تتخلّل المواقف الحازمة عبارات مثل "سوف نرى" أو "ماذا يمكنني أن أعمل"، أو "أجبرتني الظروف". المسيح إلهٌ صالح ومحبّ ورحوم ورؤوف ومعزٍّ، وهو ليس سوى هكذا، لم يتردّد في أن يُصلب من أجلنا بملء رضاه، وسكب دمه من أجلنا ومات تحت عذابات رهيبة ليخلّصنا. لا تستخفّوا بالموضوع، فنحن نستطيع أن نكذب على الناس ونضلّهم ونخدعهم، لكنّنا لا يمكننا، بحال من الأحوال، أن نكذب على الربّ، ولا أن نضلّه ونخدعه أو نستخفّ به. إن نحن أنكرناه وخجلنا به، فسينكرنا، هو أيضًا، ويخجل بنا في الدينونة الأخيرة.
[1] Livre ( Donne et tu recevras - paroles de foi) Le moine Nicolae Steinhard Le reniement du Christ