الحسد لأحد آباء الكنيسة الروسية في جزيرة المارتينيك
الحسد لأحد آباء الكنيسة الروسية في جزيرة المارتينيك ( حديث للرعيّة) 
عن الفرنسيّة/ موقع الكنيسة الأرثوذكسيّة.

تعريف الحسد:
الحسد هو من الخطايا السبع الرئيسّية ويأتي بعد الكبرياء. يختلط الحسد مع الغيرة، بل هما أخوان توأمان. فالغيور يخشى خسارة ما يملكه، أمّا الحسود فيحزن إن لم يحصل على ما هو للآخر حتّى ولو تمّ له الحصول عليه بوسائل ملتوية غير عادلة. ما يُميّز الحسد عن غيره من الأهواء هو الشعور بالحزن والضيق والتكدّر على عدم الحصول على الخيرات المادّيّة والخُلُقيّة، أيضًا، التي يتمتّع بها الآخر. الحسد هو هوى ورذيلة، مرض خبيث وسيّئ يصيب النفس ويتغلغل داخلها مسبّبًا لها خسارة خلاصها الأبديّ. يُسمّى هوًى، لأنّ الحزن العميق والأسى الشديد يجتاحان الحسود، فيتكدّر لنجاح الآخر وشهرته وثروته.... فمثلًا يحسد من هو جميل الصورة ويريد أن يتمتّع بالحُسن نظيره؛ يحسد من هو غنيّ ويرغب أن يماثله في غناه؛ يحسد الناجحَ في عمله، ويشتهي أن يحظى بالشعبيّة والمجد مثله وهكذا... وعلى هذا، يندسّ الحسد في كلّ مجالات المجتمع: في الرياضة والفنّ والتجارة والصناعة وجودة البضائع والعلم والسياسة؛ وحتّى الكنيسة لم تنجُ منه، إذ يبذر الانتقام والنميمة بين الكهنة. 

صفات الحسود:
يفرح الحسود لرؤيته الآخر متألّمًا أو حزينًا أو واقعًا تحت خسارة؛ إنّه شخص متكبّر لا يتحمّل أن يكون غيره أفضل منه؛ هو إنسان أنانيّ يُريد أن يحرم الغير ممّا يملك ليحصل هو عليه لا ينفكّ يردّد: "آه، لم أحظ بالبركة التي حصل عليها فلان؛ أنا لا أعامَل كما يُعامَل فلان، ولا يقولون لي ما يقولونه له وهكذا... وبناء عليه، لا يعرف الحسود كم من الشقاء يعانى الآخرون، وكم من الآلام يكابدون ليكتسبوا الثروات أو يحقّقوا النجاحات، ولا يعلم كم ضحّوا واجتهدوا في حياتهم حتّى بلغوا إلى ما بلغوه، فيخترع عليهم الإشاعات المغرضة للحطّ من شأنهم وقدرهم ونجاحهم. 

ثمار الحسد:
لاحظ المغبوط أغسطينس بأنّ خطيئة الحسد هي خطيّة شيطانيّة بامتياز، لماذا؟ لأنّ الموت دخل إلى العالم بسبب حسد الشيطان، الذي لا يريد أن يحظى الإنسان بفردوس النعيم مجدّدًا بعد أن أضاعه. يؤثّر الحسد على الإنسان الحسود ذاته، إذ تنمو هذه الرذيلة في داخله لتصبح خطيئة مميتة تتعارض مع فضيلة المحبّة. فبدلًا من أن يفرح لفرح أخيه ونجاحه سواء كان في عمله أو في دراسته، يحزن ويستاء ويتكلّم عنه بالسوء. يزرع الحسدُ الكراهيةَ في وسط العائلات كما حدث مع يوسف عندما حسده أخوته وأرادوا قتله. يُسبّب الحسد الخصومات والشكوك، ويخلق الانقسام بين المسيحيّين في الرعيّة الواحدة والأبرشيّة الواحدة وبين الكهنة والعلمانيّين. يجعل الحسدُ قلبَ صاحبه مضطربًا لا يعرف الراحة والسلام، إن لم يسارع ليُطفىء هذا الهوى الذي يُسيطر عليه أو على الأقلّ أن يحدّه، وإلّا فسوف يظلّ يحيا في حزن ومرارة مستمرّة، فيُعطّل نموّه الروحيّ والمعنويّ. ينتج عن الحسد الغضب. لا يعرف الحسد الاكتفاء كسائر الخطايا أو الأهواء. فمثلاً عندما يسرق اللصّ قد يكتفي بما سرقه، وكذلك عندما يتناول أحدنا الطعام بشراهة يتلذّذ به وقد يتوقّف عن الازدياد... أمّا الحسد فلا يعرف الاكتفاء، ولذلك فصاحبه دائم الحزن والتجهّم. 

يقول القدّيس بنوا: "تتولّد الكراهية من الحسد وكذلك النميمة والكذب والحكم على الآخر، ولهذا أتساءل كيف نتوجّه في صلاتنا إلى الله المحبّة المطلقة، إن كنّا حسودين؟". ويقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: "يسلّحنا الحسد على التصارع فيما بيننا والتخاصم بينما علينا أن نشهد للمحبّة، فيقوم الواحد على الآخر داخل الكنيسة ويأكله  كما تفعل الحيوانات المفترسة، فإن كنّا نسعى إلى تمزيق جسد المسيح، فإلى أين سنصل؟". 

تصرّف الحاسد تجاه المحسود.
يُبرز عيوبَ الآخر وأخطاءه أمام الجميع، يشتكي منه، يسخر منه (حتّى في غيابه) أو يفتري عليه، وقد يختلق الأكاذيب ويبتدع أمورًا يلصقها به. إن مدحوه أمامه يتضايق ويعترض ويقول: "ليس هو بهذه الأهمّيّة كما تظنون، فأنتم لا تعرفون عنه ما أعرفه أنا، فهذا الذي تمدحونه يُخفي داخله عيوبًا ورذائل لا ترونها". وهكذا يُحاول أن يُطفىء كلّ مديح أو ثناء يوجّه إلى الآخر فاضحًا سيّئاته لكي يقلّل من شأنه. ينتقد بشكل مستمرّ وفي كلّ مناسبة، يتراءى، يُظهر وجهًا مخالفًا لما يضمره في قلبه؛ يبتسم لمن يحسده ابتسامة عريضة فيما يغلي قلبه بالغيظ عليه؛ يدّعي محبّته، مبديًا نحوه مشاعر مزيّفة كاذبة فيما تسيطر عليه الكراهية. يمكنه أن يُسمّم له ليتخلّص منه، يشهد ضدّه زورًا، يتضايق من تقدّمه وتفضيل الناس له، فيسعى إلى تدميره مشوّهًا سمعته الطيّبة وصيته الحسن. 

علاج الحسد 
يتكلّم الآباء على النسك الأرثوذكسيّ والجهاد ضدّ الأهواء ومعالجتها عن طريق تطبيق الفضائل المعاكسة للرذائل التي تنتج عن تلك الأهواء، بالإضافة إلى ممارسة حياة النسك للوصول إلى المثال الأعلى. والنسك ما هو، بالحقيقة، إلّا قطع ميولنا السيّئة وضبطها للارتقاء بواسطة الصلاة النقيّة نحو الله، ما يجعلنا نكتسب نوعًا من التألّه في طريقة التفكير والحياة والسلوك لكوننا خُلقنا على صورة الله ومثاله. وأمّا معالجة الحسد، فتتمّ على النحو التالي:

1) مقت ما يخصّ العالم، أي التخلّي عن ملذّاته ومباهجه وثرواته ومجده الباطل وتعظّم معيشته وغيرها.. والتي تخلق حزنًا لدى من يتعلّق بها ويتمسّك بكلّ ما هو فان. فالقدّيس يوحنّا السلّميّ يقول: "من يترك العالم ولا يتعلّق به، لا يشعر بالحزن. فما أن تبرز محبّة العالم وما فيه في القلب تجب المبادرة إلى سحقها للحال كما تُسحق الحيّة".

2) استخدام الخير الذي فينا، والبحث عمّا لدينا من مواهب وتفعيلها، لنُبعد الحسدَ وننعم بالهدوء. يجب أن يكون الآخر حافزًا  لنا للاقتداء بحسناته، وأن نجد في صفاته وفضائله تكملة لما عندنا من صفات حسنة لا تنقص عن تلك التي له. نجد، اليوم، في مجتمعنا الدنيويّ أناسًا يفرحون لتعاسة الآخرين، فإذا كانت فضائلهم تثير فيهم الحسد، بتحريض من الشيطان عدوّ البشر ومن محبّتنا لذواتنا، عليهم، بالحري، الاقتداء بسيرتهم وتمجيد الله الذي وزّع نعمه ومواهبه المتنوّعة على الجميع. 

3) التأمّل في حياة الشركة المسيحيّة القائمة على روح المحبّة والتعاون. فعندما يعلن الكاهن "القدسات للقدّيسين" يشير إلى أنّنا أعضاء جسد المسيح الواحد وهو رأس هذا الجسد، أي كلّنا أخوة في الكنيسة وفي المسيح. فالصفات الحسنة والمواهب والنجاحات لا تخصّ الفرد الواحد إنّما هي عطيّة تطال كلّ الجماعة، والخير الروحيّ تشترك به، أيضًا، كلّ الجماعة داخل الكنيسة. فالموهبة الشخصيّة تكون لمجد المسيح وخير الكنيسة. 

4) اعتبار أفراح وعذابات الشخص، هي، أيضًا، أفراح وعذابات الجماعة المقدّسة، لأنّه كما يكتب الرسول بولس: إن تألّم أحد الأعضاء، تتألّم معه باقي الأعضاء.  

5) عدم انتقاد نجاح الكنيسة الأرثوذكسيّة في بشارتها وإشعاعها، بل، بالحري، الفرح لانتشار الإيمان. 

6) وأخيرًا، التواضع أمام الآخرين واعتبار الغير أرفع منّا قدرًا، لأنّ التواضع يُساعدنا على تقديم الآخر على ذواتنا. قد نتساوى معه أو نتخطّاه في بعض الأمور، فليكن ذلك بشكل مفيد وغير مؤذٍ، فمثلًا إن طرح البعض مواضيع مفيدة وجيّدة على الأنترنيت، أحاول تقليدهم بوسائل مشابهة دون احتقار عملهم الناجح وذمّه. يجب أن يوجد تحفيز إيجابيّ لعملنا، وأن تكون المعطيات التي نعمل بموجبها شرعيّةً في مقاصدها، نبيلةً في تأديتها وصالحةً في عرضها. فمثلاً أجاهد في سبيل اقتناء فضيلة التواضع أو الصبر دون أن أفرض طريقتي وأسلوبي في العمل، ولا أجدّ في منافسة الآخر أو التسلّط عليه أو الإقلال من شأنه. وهكذا لا أصل إلى بلوغ هدفي في النجاح عن طريق الاحتيال والمكر والتصدّي للآخرين، إنّما أسعى ليتمّ العمل من خلال حياة القداسة والجهاد الروحيّ المستمرّ أي بالصلاة والصوم كما قال الرسول بولس: "إقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح".  

تعرض لنا الكنيسة سير القدّيسين للاقتداء بحياتهم وجهادهم. إنّهم المثال الحيّ الذي يجب أن يعرفه الشباب. فالشباب، اليوم، يُظهرون على شاشات التواصل الاجتماعيّ كلّ ما يتعلّق بنزواتهم، من شراء سيّارة فخمة إلى ساعة يد ثمينة إلى ثياب بحسب موضة العصر وغيرها من الأمور التافهة التي تُبعدهم عن الله وعن الاهتمام بخلاص نفوسهم. بالإضافة إلى أنّ هذه الشاشات تعرض لهم كلّ أنواع الملذّات والشهوات الباطلة الدنيويّة بدلًا من أن تساعدهم على تنقية أفكارهم وجذبهم للاقتداء بالقدّيسين عن طريق مشاهدة الأفلام الدينيّة المفيدة كفيلم القدّيسين نكتاريوس وباييسيوس وغيرهما من القدّيسين. لذلك، يتوجّب على الأهل مساعدة أطفالهم وشبابهم على المواظبة على حياة الكنيسة والتمثّل بحياة القدّيسين عندما يقرأونها أو يُشاهدونها. 

نحن مدعوون كلّ يوم إلى القداسة، فلا ندعنّ، إذًا، الكراهية تتسلّط على قلوبنا، ولنتمسّكنّ باليقظة التي ينصح بها آباؤنا القدّيسون أو بما يُسمّونه السهر على الذات وحفظ الحواسّ. ولنشكرنّ الله، متحاشين الوقوع في خطيئة الحسد، ومصلّين، باستمرار، لكي يمنحنا الربّ نعمته وحمايته ويحفظنا في حياة التواضع ويُبعد عنّا كلّ حيل الشرّير وفخاخه.