بعض عوائق الاعتراف الصحيح
بعض عوائق الاعتراف الصحيح
للأرشمندريت أثناسيوس أنستاسيوس رئيس دير المتيورا الكبير[1]
 
إذا استثنينا القلّة من الذين يمارسون سرّ التوبة أو الاعتراف بشكل صحيح، نلاحظ بأنّ الغالبيّة العظمى من المؤمنين يتساهلون مع أنفسهم، يخضعون لرغباتهم المادّيّة وإرادتهم، يكتفون باعتراف سريع موجز يتمّ بفترات متباعدة، مدفوعين إليه بحكم العادة لا غير؛ وبالاختصار يقتنعون بحياة روحيّة يحسبونها عاديّة ومقبولة فيما هي فاترة لا روح فيها ولا جهاد. فلا عجب، بعد ذلك، من أن يتوقّف عمل النعمة الإلهيّة داخلهم بعد أن عطّلوه، هم أنفسهم، هي التي ترغب، أي النعمة، في تحويلهم من "آنية غضب مؤهَّلة للهلاك" (رومية 9: 22) إلى "إناء للكرامة مقدَّسًا أهلًا لاستعمال السيّد لكلّ عمل صالح" (2تيموثاوس 2: 21).
 
وقناعتنا التامّة بحياة كهذه هي الأمر الأسوأ الذي نعاني منه نحن مؤمني هذا العصر، معتقدين، وبضمير مرتاح، أنّنا مسيحيّون صالحون لكوننا نمارس عددًا من الالتزامات الخارجيّة، مبتعدين، ظاهريًّا، عن ارتكاب بعض الأمور غير اللّائقة؛ نقترب من سرّ الاعتراف من دون أن يكون لدينا ملء الإحساس بثقل أهوائنا، التي تدعونا إلى كشف تحرّكاتها فينا، والتي تجعل حالتنا الروحيّة لا حارّة ولا باردة قد تدعو الربّ إلى أن يتقيّأها من فمه (رؤيا 3: 16)، ناسين أنّ معرفتنا لضعفاتنا وأمراضنا الروحيّة تشكّل حجر الأساس للرجاء بالخلاص.
 
وهكذا، تمرّ سنون بكاملها نخرج فيها من سرّ الاعتراف دون أن نشعر بالارتياح المرجوّ لكون الاعتراف قد تمّ بشكل سطحيّ بلا دقّة ولا لوم للذات، من دون توبة حقيقيّة. فلا عجب، بعد ذلك، من تسيّد الأهواء علينا، من مدّ جذورها عميقًا بحيث بات التخلّص منها يتطلّب الجهد الكبير. وبناء على هذا، فبقدر ما نبقى قابعين في جبّ إهمالنا وبؤرة خمولنا، لا يدنو الشيطان لإزعاجنا، البتّة، لكونه مرتاحًا مطمئنًّا من ناحيتنا ولا يوجد أدنى خطر يقلقه في أن يفقدنا. ولكن ما إن نتنبّه لحالتنا البائسة ونبدأ بالتوبة والرجوع، حتّى يشهر الحرب علينا، مستعملًا كلّ حيله وأسلحته لقمع يقظتنا ومنع نهوضنا من تراخينا وكبوتنا.
 
فالعائق الكبير للتوبة والاعتراف الصحيح، وبخاصّة للمؤمن، هو ضلال الاكتفاء بالذات والرضى عن مسيرة "حياة فاضلة"، مسيرة ظاهرها صالح فيما باطنها مليء بأوساخ النفس وزلّاتها التي تستوجب محاسبة للنفس دقيقة وصريحة، ثمّ اعترافًا جريئًا صادقًا.
عدوّ آخر يقف لنا بالمرصاد هو تبرير الذات. فإن كانت التوبة الحقيقيّة تتمثّل في إنكارنا لذواتنا وقبول حالتنا الخاطئة وأهوائنا العديدة والإقرار بخطورتها، فإنّ تبرير الذات، الذي هو ثمر الكبرياء الداخليّة، ينفي هذا جميعه، وبالتالي يبعدنا عن التوبة والاعتراف بخطايانا وذنوبنا. تذكّروا مثل الفرّيسيّ والعشّار، فالأوّل افتخر بفضائله، معتبرًا نفسه بارًّا فيما نظر إلى العشّار كمن هو أدنى منه مرتبة، كخاطئ.
 
من يبرّر ذاته يجعل منها ديّانًا وحاكمًا عليها، معتقدًا بأنّ الله مدين له بالمكافأة على أعماله، على برارته. كما يقيم نفسه ديّانًا على الآخرين، غير مستعدّ لقبول ضعفاتهم وأخطائهم، يحكم عليهم بقساوة ومن دون رحمة. وبما أنّ ظلام الكبرياء يعميه، يبقى عاجزًا عن تمييز أوساخه الشخصيّة أو اكتشافها. لذلك، فهو بعيد عن روح الانسحاق والتذلّل، وبالتالي على تلقّي شعاع النعمة الإلهيّة. ولكن، إن لمس الله فيه ميلًا صادقًا إلى التوبة والرجوع، إن لمس فيه ولو ضوءًا خافتًا من التواضع، يمدّ له يد العون، ويمنحه اليقظة والصحو من جديد؛ وأمّا إن تقسّى قلبه بالزهو والعتوّ، فالله وحده يعلم إن بقي له ثمّة رجاء بالخلاص.
 
التأجيل والتأخير حيلتان شيطانيّتان يستطيع بهما إبليس أن يضلّل المؤمن، فيؤثر إنجاز الأمور الدنيويّة الأكثر أهمّيّة بالنسبة إلى حياته، معتقدًا بأنّ المستقبل واسع أمامه للتوبة، ناسيًا بأنّ الوقت الحاضر هو الوقت الوحيد الذي يقبض عليه في يده لاتّخاذ القرار بشأن خلاصه. فالماضي أفلت منه، والمستقبل غير مضمون لا سيّما وأنّ ساعة الموت مجهولة وطريقة الوفاة غير معلومة. إذًا، عليه الآن أن يبدأ الخطوة الأولى باتّجاه درب التوبة.
 
من بين العوائق الكثيرة التي يرصف الشيطان حجارتها في طريق التوبة هي قلّة الثقة بأب الاعتراف ومدى حفظه للسرّ، فيعتقد المعترف بأنّ سرّه قد كُشف للآخرين، وباتت خطاياه معلَنة معروفة، فيحجم عن الاقتراب ثانية من الاعتراف. إنّه خداع وضلال يقع فيهما معظم السطحيّين من المؤمنين، غير عالمين بأنّ الآباء المعرِّفين ملتزمين بوعود رهيبة أمام الله لكتمان الاعترافات.
 
وأمّا العائق الأشدّ خطورة والسلاح الأقوى للشيطان، وبخاصّة ضدّ من يرتكب خطايا كبيرة وصعبة، فهو اليأس. يحجب اليأس عن عيني الخاطئ حنان الله ورحمته التي لا حدّ لهما ومحبّته التي لا توصف للبشر، فيصوّره له ديّانًا معاقِبًا وحسب، لذلك يحاربه بالشكّ إزاء وعوده وغفرانه.. كما يخفي عنه بأنّ أهواءنا نفسها تستطيع أن تتحوّل إلى فضائل بنعمة الله التي يمنحها لكلّ من يتّضع ويتوب توبة صادقة. إن كنّا نستطيع بتقوانا وجهادنا أن ننقّي نفوسنا من أهوائها دون الاعتماد على النعمة الإلهيّة، يأتي انحرافنا نحو اليأس مبرَّرًا. ولكن، وبما أنّ الله يغدق علينا بنعمه كلّ يوم، ولا يطلب منّا سوى الجهاد والمحاولة للعيش وفق وصاياه، بصرف النظر عن الماضي وسقطاته، إذًا، لا يجوز أن يبلبلنا أيّ فكر يأس أو إحباط.
بقي أن نقول بأنّنا نرتكب خطأ جسيمًا عندما نتهاون في دعوة الآباء الكهنة ليعرّفوا المحتضَرين بحجّة عدم إخافتهم، وندعهم يعيشون لحظات رهيبة في مصارعة الشيطان أثناء نزاعهم الذي يبذل كلّ جهده ليبقوا في قبضته ودون اعتراف، وهكذا يرحلون عنّا وهم غير مسامحين. 
 
 
 
[1] عن اليونانيّة. من كتاب: Ceiragwgi.a sth. meta.noia) Praktiko.j o`dhgo.j to. `iero. musth.rio th/j evxomologh.sewj) :Ekdoseij 2001)