الكنيسة للمثلّث الرحمات البطريرك الياس الرابع معوّض
الكنيسة للمثلّث الرحمات البطريرك الياس الرابع معوّض[1]
 
         "... الكون لا يستقيم ولن يستقيم إذا تخلّى عن ناموس المحبّة، خرج الله من ذاته ليعيد الكلّ إلى ذاته، وبخروج الإنسان من ذاته يرسم الخطّ المستقيم إلى الحقيقة الأبديّة، حياة المسيح على الأرض كانت كلّها خروجات، خرج من ذاته محبةً، فأقام الأموات وشدّد أرجل المخلّعين، وشفى البرص وأجلس المقعدين وخلع على الإنسانيّة وشاح وجهه، احتضنها صليبًا فغرّدت نشيد عودتها إلى فردوسها الجديد.. خروج الذات تعني الذبيحة التي تتغلّب على الموت، عدوّ الموت الأكبر هو المحبّة، المحبّة هي الإكسير الذي يطّعم الموت بالحياة فينتشي بالأوّليّة، ولهذا كانت الكنيسة فردوس محبّة ومن نوع جديد حلّ محلّ الفردوس القديم، كلّ ما يتمّ فيه خروج، ذبيحة دمويّة للسموّ إلى الذبيحة الكبرى.
 
         كلّ ما في السماء تجنّد حبًّا بالخليقة الإلهيّة، صارت السماء كلمةً تنطلق لتدخل إلى كلّ قلب، إلى كلّ روح.. من هذه الناحية صارت الكنيسة عملًا انفتحت على العالم علمًا وثقافة وحضارة. الإنسان المطروح على قارعة الطريق تثخنه الجراح صار هدفَها، والغارق في وادي الدموع همَّها، إنّها الضوء ينساب على العتمة فيميت ظلماته، والإرادة المبدعة لمن شُلّت إرادته، والدواء الشافي لمن طُرحوا على سرير الأمراض، والرجاء للذين فقدوا الرجاء. كلّ تخلّ عن هذه الرسالة تخلٍّ عن حقيقة الكنيسة، وكلّ انزواء عن العالم تقليص لمدّ التجسّد الذي يحاول أن يكتسح المسكونة.
 
         العالم يحتاج إلى الكنيسة! في العالم فراغ روحيّ لا تمليه إلّا حقيقة الكنيسة، هذه الفوضى العالميّة، هذا البشر الضائع في دياجير فراغه، الشباب يلعق رمال صحاريه المحرقة ويُشرّد في الدروب الضيّقة، متاهات من الفراغ تتكمّش بالنفس البشريّة، بحّة موت روحي تخنقها بحّات، وغصّة تصعّدها حسرات تخنقها غصّات مبلّلة بدم. هذا الفراغ المدمِّر الذي جعل من الإنسان جسدًا مُلقًى في هاويات القذارة، يحتاج إلى من يمليه بالطيب ولن تمليه إلّا الكنيسة ذات القوارير السبع. إن استمرّت الكنيسة لاهية في القشور فرحة بالسطوح، عاجزة عن الغوص إلى الأعماق، تاركة رسالتها ضمن قوقعة ملكًا للاهوت نظريّ وأحلام طوباويّة، فالفراغ سيزداد والكنيسة ذاتها ستحصد نتاج هذا الفراغ. العالم يفتّش عن شيء يملأ به فراغه، هذا الشيء موجود، إنّها الكنيسة المنتشرة في الأكواخ والأزقّة وكهوف الأرض تلتقط هذه العجنات الخام، تصوغها طاقات تتحرّك بالخير فيتحرّك العالم كلّه خيرًا. الكنيسة ليست إلّا رسالة متجسّدة إلى بشر مخلوقين على صورة الله ومثاله، كلّ سلبيّة في الكنيسة تتنافى مع طابعها الإلهيّ وقصد الله بكنيسته.1.jpg
 
         ما الذي يؤلم الإنسان ويؤرّقه؟ ما الذي يدعوه إلى الهرب من حقيقته؟ لماذا يفتّش عن سلواه خارج نفسه؟ لماذا يلقي بنفسه في مهالك الدمار؟ لماذا يحبّ فوهات الجحيم؟ لماذا يحبّ أن يربح العالم ويخسر نفسه؟ لماذا لا يحبّ ولا يرتقي بالمحبّة إلى رتبة التجلّي والقداسة؟ لماذا صار الإنسان ذئبًا يأكل أخاه الإنسان؟ لأنّ الفراغ الروحيّ يزداد، وبُعده عن الله يمتدّ، والآفاق السماويّة أصبحت بعيدة عن الأبصار. إذا عرفنا أن نخرج بغنى الكنيسة، وما أغنى كنوزها، لمسحنا العذاب المرتسم في عيون البشريّة بالغبطة، ولَعُدنا بها إلى حقيقتها وأجلسناها على كرسيّ السلوى، ولألقيناها في فردوس ذاتها تأمر حرّيّتها وتداعب أرادته المقدّسة، ولجمعنا إليها الملكوت الخالد حيث لا مجال للسوس ولا للسارقين. رسالة الكنيسة رسالة خلق وإبداع، رسالة خروج إلى العالم لنربح العالم بالمحبّة.
 
         الكنيسة تستطيع أن تفعل كثيرًا إذا طرحت تعاليمها طرحًا حقيقيًّا مجرَّدًا من كلّ أنانيّة وغطرسة وحبّ ذات. إذا نظرنا إليها عبر التاريخ رأيناها باقية لا كقوّة دامغة لتجسيد العالم على غرار التجسّد الإلهيّ، إنّها باقية تقليدًا، شجرةً تثقلها أثمارها الطيّبة، ولكن أحدًا لا يقطفها ولا يتذوّق طعمها إلّا القليلون. إنّ طعمها أشهى من العسل، إلّا أنّ البشريّة تستهويها أثمار الشجرة المحرَّمة. الكنيسة الحيّة هي التي تعرف أن تعرض ثمارها ليتغذّى العالم وتعود إليه الحياة.
 
         الكنيسة وُجدت كخزّان للنعمة لتقضي على الجدران الفاصلة بين الخالق والمخلوق، وبالتالي بين الإنسان والإنسان. كلمتها هي الكلمة الحقّ النيرّة واللسان الإلهيّ الذي يخاط البشر بنار المحبّة، هي مركز الحوار ومصدره. ما هو موقفنا نحن المسيحيّين من حقيقة الكنيسة؟ أنتبنّى حقيقتها؟ أنعمل بالرسالة التي تجسّدها؟ أنطلق لساننا بالحقّ؟ أيتفتّح قلبنا بالمحبّة؟ أتوطّد السلام في نفوسنا؟ أنزرعه في نفوس الآخرين؟ أنؤمن بالعدل كقاعدة إلهيّة واجتماعيّة لحياتنا؟ أنجعل نفوسنا فداء عن الإنسان الشريد الطريد؟ أنشعر بأنّنا مدعوّون لنكون خبزًا للجياع وماء للعطشى ودثارًا للعراة ودواء للمرضى وضمادًا للمجرّحين؟ نحن مدعوّون إلى تبنّي حقيقة الكنيسة المقدّسة إذا أردنا أن نبني مجتمعًا حقًّا يتساوى فيه الجميع على مائدة الربّ".
 
[1] عن: البطريرك الياس الرابع (معوّض) "بطريرك العرب". صفحات من خلجات قلبه وفكره ويراعه. جمع وإعداد اليان جرجي خبّاز 2017. ص: 32-35 و 83.