لنستثمر روحيًّا وقتنا الحرّ
الميتروبوليت أثناسيوس مطران ليماسول
[1]
إن شاء الإنسان أو لم يشأ يمضي الزمان والسنون تتراكم والعمر يتقدّم ويزداد، أي يطول الماضي ويقصر المستقبل. هذا واقع حياتنا على الأرض وهو دافع مهمّ وسبب يجعلنا نفهم الكثير من الأمور ويُساعدنا، أيضًا، على أن يكون لدينا حكم صحيح عاقل، وعلينا بالتالي أن نجعل وقتنا الحاضر مثمرًا وذا قيمة روحيّة أكبر. الوقت هو العامل الأساس وسوف نُدان على كيفيّة استخدامه. هذا ما نراه عند القدّيسين الذين لم يتجاهلوا أهميّة الوقت في حياتهم، بل كان لهم إحساس عظيم تجاهه وحرصوا جدًّا على عدم هدره بأمور باطلة لا نفع منها. القدّيسون هم الذين أعطوا قيمة لأوقاتهم وحتّى آخر لحظة من حياتهم. جاهدوا في سبيل إرضاء الربّ واكتساب الحياة الأبدية في الملكوت السماويّ.
غالباً ما نسمع أحدهم يقول: فليمنحني الله سنين مديدة لكي أرى أولادي يكبرون؛ وآخر لكي أتزوّج أو لأدبّر شؤون حياتي، أو لأعمل أعمالًا صالحة، أو لديّ أشياء كثيرة يجب أن أقوم بها. وهكذا تجري الأمور دون نهاية لها... فهل هذه الطلبات مُبرّرة؟ لأنّه وإن عشنا ألف سنة سوف ننشغل بهذه الاهتمامات التي لا حدّ لها. نبدأ بعمل ما ولا ننهيه، نحيا في إحباط وحزن وشكوى ولا نجد راحة. ماذا نفهم، إذًا، من بقائنا؟ ألكي يكون في راحة؟ ولكن، متى يستريح الإنسان فعليًّا؟
تقوم الراحة الحقيقيّة للإنسان عندما يُكرّس ذاته ووقته ولو قليلًا للصلاة بعد نهار متعب ومتوتّر. فإن حدّد الإنسان وقتًاً، ولو قصيرًا، للتواصل مع الله بالروح القدس الحاضر بغزارة وقوّة في الكنيسة، سوف يشعر عندئذ بالراحة لكونها لا ترتكز على النوم لساعات طويلة، ولا على عدد الرحلات التي يقوم بها. هذا كلّه جيّد ويمنح الجسد بعض الراحة لكنّ الروح بحاجة إلى راحة حقيقيّة وهي الأهمّ والتي تمنحنا البهجة النفسيّة. يرتاح الإنسان فعليّاً عندما يتعلّم كيف يُصلّي وكيف تكون لديه علاقة حيّة شخصيّة وحميميّة مع الله. نحن نعرف إلى أيّة درجة تجد روح الإنسان الراحة في متابعته للخدم المُقدّسة في كنيستنا الأرثوذكسيّة، كقانون الابتهال للفائقة القداسة والدة الإله في الأسبوعين الأولين من شهر آب. وكم ترفع الطروباريات المقدّسة النفس إلى الله وتشترك مع الروح القدس المعطى من الربّ للذين يُريدونه ويطلبونه. لقد كتب القديّسون تلك الطروباريّات، لأنّهم اختبروا الروح القدس وعمله في حياتهم وأحسّوا بحضوره في قلوبهم فعبّروا عن محبتهم لله من خلال الأناشيد والتراتيل التي نظموها.
وهكذا، أصبحنا ندرك بالحقيقة ما يُريح النفس وما يُعكّرها ويُشوّشها. يرتاح المؤمن في الصلاة وفي الخدم الإلهيّة، في ممارسة أسرار الكنيسة، فلا يجد، فيما بعد، راحة حقيقيّة إلّا فيها. فالراحة ليست في ارتياد أفضل الفنادق، ولا مراكز التسلية حيث يخرج الناس منها متعبين أكثر تشملهم كآبة أعظم مما كانوا عليه قبل دخولهم. يا له حدث متناقض يجري اليوم! يمضي الإنسان أيامه ولياليه في أماكن اللهو والترفيه، في الفنادق والمقاهي، وبدلاً من أن يكون ممتلئًا هدوءًا فرحًا نجده يغتاظ بالأكثر، وينهض في الصباح مع أصوات الصراخ والشتائم، متأهّبًا للقتال والعراك. هذا الأمر لا يحدث على الإطلاق عند انتمائنا للكنيسة.
قال القدّيس يوحنا الذهبيّ الفم بخصوص هذا الشأن: "هل تريد أن تعرف ما هي الكنيسة وما الأعجوبة التي تُقدّمها لنا؟ الأمر بسيط جدًّا. أدخل إلى الكنيسة واختبر بذاتك وسوف تجده المكان الذي تدخل إليه وأنت ذئب فتخرج حملًا. تدخل لصًّا فتخرج قدّيسًا، تدخل غاضبًا وتخرج إلهًا بالنعمة". هذه هي الكنيسة. هذه أمور تحدث، ولا شكّ فيها. الإنسان الذي يعيش في الكنيسة ويحيا أجواء الترانيم لا بدّ أنّه يكتسب السكون والهدوء. لهذا السبب تملك الكنيسة الأرثوذكسيّة العديد من الخدم الكنسيّة. إنّها كنيسة ليتورجيّة بامتياز، وكلّ التأثير العلاجيّ الروحيّ الذي يفعل في نفس المرء هو تأثير روحيّ ليتورجيّ.
إذاً، إنّه لبركة كبيرة للإنسان أن يستخدم الوقت بطريقة صحيحة، ويجد القليل منه لكي يستريح حقيقةً، وبالأكثر أن يُكرّس وقتًا لله ويتعلّم الصلاة. نلقى في حياتنا اليوميّة الكثير من الصعوبات والإحباطات، كثيرون من الشبّان يجدون ذواتهم في فراغ، ولديهم الكثير من التساؤلات والمشاكل والأحزان واليأس... فهذا الظلام الحالك الذي يُحيط بنفوس البشر الضعفاء يجعلهم يجهلون هويّتهم الأصليّة، وماذا يصنعون وأين يذهبون، لا يعرفون ماذا يُريدون.
تتعالج هذه الأمور عندما يبدأ الإنسان اليوم باستخدام وقته بشكل صحيح ويُعطيه قيمته أي أن يُصلّي ويلتزم بالكنيسة وتعاليمها ومبادئها لأنّها تُمدّه بالقوّة والنور. الله هو النور الذي يُنير كلّ إنسان آت إلى العالم، والنور يُبدّد، شيئًا فشيئًا، الظلمات عن قلوب البشر.
[1] عن الفرنسيّة (موقع الأرثوذكسيّة).