محادثات للشيخ سمعانSymeon
[1]
( مؤسّس دير إيسيكس في إنكلترا وتلميذ القدّيس صفروني ساخاروف)
في دير سيّدة الحماية في
Bussy-en-Othe
... لا يجوز أن يذمّ أهل العالم الرهبنة أو يُضعفوا من أهميّتها وتضحيتها لأجل البشريّة. ولا أن نقتدي بالأمثلة المعثرة في الرهبنة، ولا أن نتوقّف على انحرافات بعض الأشخاص فيها، إنّما لنأخذ الحياة الرهبانيّة بشكلها العامّ المثاليّ، ولننظر إلى الحياة المسيحيّة في العالم في أحسن مظاهرها.
لذلك أسمّي هذه المقاومة للرهبنة خاطئة غير صحيحة وهي من تحريض الشيطان لإبعاد الناس عن الله وعن الخلاص. فمبادئ وصايا المسيح لها قيمة شاملة تتوجّه إلى الناس في العالم وإلى الرهبان على حدّ سواء. يتوقّف الأمر على نقطة مهمّة جدّاً وهي محبّة القريب.
لا الرهبان ولا المسيحيّون العائشون في العالم يمكنهم أن يكونوا مثالاً كاملاً في محبّة القريب التي تصعب، أحياناً، محبّته. من هنا يمكننا أن نتكلّم عن محبّة الأعداء. تسمح النعمة المعطاة لنا في المعموديّة بأن نتغلّب على تذكّر الشرّ أو الخطأ الذي صنعه معنا القريب، ونمحو بذلك من قلوبنا كلّ حقد وضغينة تجاهه.
عندما ندين الآخر وننتقده، أو نتذكّر ما فعله الأخ أو ما قاله، أو لم يُراعِ ما كنت أتمناه... فإن لم نسامحه ولم ننس ذلك، فهذا يؤدّي بنا إلى خطيئة الحقد. فخطيئة حفظ الإساءة تقضي على كلّ حياتنا الروحيّة، ولا شيء يُعالج الضغينة، لأنّها تُدمّر كلّ جهاداتنا الروحيّة الأخرى، لا بل وتصير باطلة وعقيمة.
فالحياة الرهبانيّة الحقيقيّة تعني الاقتداء بالمسيح، وتبدأ هذه الحياة بالهروب من العالم ورفضه، ثمّ يتبعه الجهاد ضدّ الأهواء... نحن، دائماً، عرضة للمضادّات.
سوف أعرض لكم أربعة أنواع منها طرحها لاهوتيّ إنكليزيّ مبشّر من القرن السابع عشر (أعتذر عن نسيان اسمه)، بما أنّ حياتنا الروحيّة ترتكز على مجابهة الحروب والجهادات، وهي:
- توبة من دون يأس: أي عندما يرى الإنسان خطاياه، يقوده ذلك إلى التوبة مثل الإبن الضالّ الذي وجد حياته مليئة بالبطلان والألم والسقطات، فاختبر، للحال، خداع العالم. لكن لا يكفي بأن نكتشف فراغ العالم وخداعه، بل يجب أن نعود إلى الله.
لا يجب أن يُرافق التوبة أي يأس لأنّه يُدمّر كلّ شيء. كثيرون في عصرنا، للأسف، يعيشون حياة الفراغ في مجتمعنا، ويتطلّعون بيأس إلى المستقبل... يعيش الشباب، حاليّاً، مأساة هذا القرن دون أن يكون لديهم الأمل بشكل عامّ في تحسّن الأمور.
يُحاول البعض، وبشكل فرديّ، أن يتغاضوا عن هذا التفكير السلبيّ بالعمل المتواصل، وآخرون يقبعون دون أيّة محاولات للخروج من أوضاعهم السيّئة، وغيرهم يقفون على أطلال الماضي وفي أسوأ الأحوال يلجئون إلى المخدّرات. لا يوجد رصيد أساسيّ روحيّ ليقود هؤلاء الناس إلى الانتفاضة والخروج من القوقعة على الذات إلى رؤية الأمور بتفاؤل ورجاء.
إذاً، من المهمّ جدّاً، أن يرجع المرء إلى الله عندما يشعر بالفراغ، إلى حيث ينبلج النور والحياة. هذه هي التوبة من دون يأس.
- إيمان من دون اعتداد (غرور): فإيماننا هو عطيّة إلهيّة، وليس نتيجةَ جهاداتنا أو ذكائنا أو معرفتنا وحكمتنا. علينا أن نحيا بهذا الإيمان دون أن نحسب أنفسنا أفضل أو أرفع شأناً من الآخرين غير المؤمنين، أو من أي إنسان، لأنّنا نلنا هذه النعمة الثمينة من الله... فتصبح فخاً يجعلنا نسقط في الكبرياء ونحسب ذواتنا مميّزين.
صحيح أنّ من حصل على نعمة الإيمان الحقيقيّ هو غنيّ، ولكن فلنحذر من أن يتحوّل هذا الغنى سبباً للوقوع في خطيئة التعالي على إخوتنا البشر، فهذه كانت خطيئة لوسيفوروس الأساسيّة، هو الذي كان لامعاً أكثر من باقي الملائكة، فنسب إلى ذاته تلك النعمة التي أسبغها الإله عليه قبل سقوطه، ولم يشأ أن يعرف بأنّ هذا النور مصدره الإله. لذا، علينا أن نرجع كلّ المجد إلى الله وليس لذواتنا الضعيفة.
- فرح من دون طياشة: ليست الحياة المسيحيّة، بعامّة، والرهبانيّة بخاصّة خالية من الفرح، ففيها نجد الفرح الحقيقيّ المُطلق. قال القدّيس الرسول بولس: "كونوا فرحين في كلّ وقت". (1تيموثاوس 5: 16).
الفرح هنا ليس سطحيّاً عالميّاً، لذا، أسمّيه فرحاً من دون طيش أو استخفاف. إنّه الفرح الذي لا ينسى معاناة البشر وحالتنا الضعيفة الواهنة بالخطيئة. علينا أن نبكي على خطايانا وفي ذات الوقت نظلّ فرحين، لأنّ المسيح أتى إلى العالم لكي يُخلّصنا وينتشلنا من أيدي الجحيم... لا يمكننا أن نستسلم كليّاً للفرح بالمعنى البشريّ وضيق عظيم يسود في العالم.
إذاً كنّا فعلاً أشخاصاً مسيحيّين لا نستطيع أن ننعزل أو ننفصل أو نصير لامبالين لآلام العالم بأسره.
إن كنّا أناساً حقيقيّين، ندخل، أكثر فأكثر، في شركة مع العالم كلّه ونتعاطف مع من يُعانون من المآسي. يجب أن تصعد صلاة الراهب حارّة لأجل العالم. هذا ما سمّاه القدّيس صفروني: "صلاة أقنوميّة"، يعني صلاة لا تُقال من فرد منزوي على نفسه أو شخص أنانيّ يهمّه خلاص نفسه، فقط، إنّما تصدر من شخص ترك فعلاً ذاته ويحيا في شركة مع كلّ إخوته البشر.
"الشخص" هو، دائماً، في شركة مع الآخرين بمعناه المثاليّ. هذه هي الكنيسة. فالكنيسة هي المكان حيث يجتمع أفراد من الناس، وهي تتخطّى ذاتها في حركة للاتّحاد بالله بالروح القدس الذي هو محبّة، فحيث لا توجد محبّة لا يوجد اتّحاد. وحيث لا يوجد اتّحاد، ليس هناك من أشخاص.
فإذا كانت لدينا محبّة للقريب، نعبّر عنها بصلاة تشمل هذا القريب. وهذا، بالضبط، ما تبرزه وجوه القدّيسين في الإيقونات. إنهم مُضائون مُمجَّدون، وفي ذات الوقت لا يطرحون آلام الآخرين ولا يتغاضون عنهم في ضيقاتهم، يُشاركون البشر في كلّ حاجاتهم ويوآسونهم في أحزانهم ويحملونها على عاتقهم. لذلك هذا الفرح هو فرح محزن من دون طيش.
- غضبٌ من دون خطيئة: الغضب عكس المحبّة، ويمكن أن يكون قاتلاً. الغضب هو مقاومة النفس لكلّ ما هو سيّئ ومضرّ. غضب خال من الخطيئة، أي غضب لا يكون موجّهاً ضدّ أخي إنّما ضدّ الشرّ.
يجب أن نميّز، دائماً، بين الخطيئة والخاطئ والمرض عن المريض. ينبغي أن نكره المرض ونحبّ المريض، وأن نحبّ الخاطئ ونبغض الخطيئة. عليّ أن أجاهد ضدّ الخطيئة الموجودة في داخلي، أوّلاً، وليس الخطيئة الموجودة في أخي، فهذا الغضب يكون مقدّسًا. نحتاج في الحياة النسكيّة إلى مقاومة الشرّ الكائن فينا مع كراهية "ذواتنا".
عندما قال المسيح يجب أن نكره أبانا وأمّنا وأخانا وأختنا وحتّى نفوسنا إن أردنا أن نكون تلاميذه (لوقا: 26: 14)، إنّما قالها بهذا المعنى. إنّه كره من دون خطيئة، غضب خال من الإثم يقوم على الغيظ على أهوائي وما في داخلي من عائق يمنعني من اتّباع المسيح، يُقاوم الوصايا الإلهيّة، ويمنعني عن محبّة الله والقريب.
أتلاحظون بأنّ هناك، دائماً، نوعاً من المتناقضات الداخليّة، ولكنّ هذا نموذج لحياة مسيحيّة تجمع الأضدّاد كما في اللاهوت نجمع الإثباتات المضادّة: الله واحد وثلاثة، المسيح هو الإله والإنسان، والحقيقة واحدة تبقى فيه. توجد في حياتنا، أيضاً، هذه المتناقضات والمُضادات، فلا يجب أن نخشاها.
[1] عن الفرنسيّة:
Buisson Ardent, Hommage « l'Archimandrite Saterts Symeon.