الأبوّة الروحيّة للمثلّث الرحمات المطران يوحنّا منصور
كلّ كاهن هو أب، لأنّه يلد المؤمنين بالأسرار المقدّسة. يقول القدّيس أغناطيوس المتوشّح بالله: "الأسقف أب للجميع"، وهو أب لأنّه يلدهم بالإيمان... ظهر نوع ثانٍ من الأبوّة عند آباء البرّيّة، ليست لها علاقة بالأبوّة الكهنوتيّة، بل هي نابعة من قداسة الشخص. إنّها موهبة يعطيها الروح القدس للمتقدّمين في القداسة، وهؤلاء يتعلّمون مباشرة من الله، يتلقّون الأبوّة مباشرة من الروح القدس.
يصبح الإنسان أبًا روحيًّا عندما ينتصر على أهوائه ويدخل في مرحلة الاستنارة أو مرحلة الاتّحاد بالله. وهذا لا يتمّ إلّا بعد جهاد مرير في ممارسة التدريبات الروحيّة، على يد أب روحيّ مختبِر. فيصبح هذا الإنسان مسكنًا للروح القدس. إنّه يولَد من فوق، ويصبح المسيح فيه كلّ شيء؛ فيستطيع أن يقول مع بولس الرسول: "لست أنا أحيا، بل المسيح يحا فيّ" (غلاطية 2: 20).
الأب الروحيّ هو إنسان عرف الله، وامتلأ قلبه من حبّه، وتذوّق حلاوة الحياة معه، وامتلأ من حضوره المبارك؛ فانفتحت له السماء، وانكشفت أمامه أسرار ملكوت الله، وحظي بخبرات روحيّة غنيّة. وهو يُظهر لأبنائه طريق الحياة من خلال حياته وتصرّفاته. إنّ إرشاده لأبنائه إلى طريق الربّ ليس بوصفه لهم، بل بأن يأخذ بيدهم في هذا الطريق، ويرافقهم فيه؛ حتّى يسلّمهم إلى الربّ نفسه. ليست مهمّته تلقين كلام الله لأبنائه، بل إيصالهم إلى الله، ليتذوّقوه ويحيوا به. وبما أنّ الأب الروحيّ إنسان ممتلئ من الروح القدس، فعندما ينطق بالكلمة ويوجّه الآخرين بإرشاداته، فالروح القدس هو الذي يتكلّم ويوجّه بشفتيه! الروح القدس الساكن فيه يعطيه موهبة التمييز؛ فيعرف ما هو من الله، وما هو من الشرّير.
الأب الروحيّ إنسان محبّ وحنون وعطوف. إنّه بالنسبة إلى ابنه الروحيّ صورة الآب السماويّ. إنّه الشمعة الروحيّة التي تنير الآخرين. إنّه يذوب محبّة وتضحية وسهرًا لينقل النور إلى كلّ أبنائه الروحيّين. يقول القدّيس باسيليوس: "إنّ رئيس الدير يمتلك شخصيّة لا تختلف عن شخصيّة المخلّص". ويقول القدّيس سمعان اللاهوتيّ عن رئيسه: "كان كلّه مسيحيًّا، وأعضاؤه أعضاء المسيح. وكنت تراه كلّه مسيحيًّا".
الأبوّة الروحيّة تتضمّن معنى الجيل الروحيّ، وتعني ولادة أبناء روحيّين. فيها معنى الخصب الروحيّ لولادة أبناء لملكوت الله. إنّها مسؤوليّة شاقّة؛ فأبناء الأب الروحيّ هم أمانة من الله موضوعة بين يديه. إنّه مسؤول عن حياة كلّ ابن أسلم ذاته إليه؛ وسيُحاسَب قدّام الله عن كلّ ابن روحيّ له... لذلك فجهاد الأب الروحيّ لا يقف عند حدّ، حتّى "يُحضر كلّ إنسان كاملًا في المسيح يسوع" (كولوسي 1: 28). إنّه يشعر بأنّ قيمة النفس البشريّة هي قيمة دم المسيح، الذي مات لينقذها من العالم الحاضر الشرّير. الأب الروحيّ يلد أبناء روحيّين، والولادة تمرّ بثلاث مراحل: الإثمار أو الإلقاح وفترة الحمل والمخاص والولادة. الإلقاح: يُحمَل بالابن كجنين. بوساطة سماع كلمة الأب، يصبح الابن جنينًا بالنعمة التي تمسّ قلب السامع؛ فيلتصق بالله، وينمو في مناخ توجيهات أبيه.
الحمل: وهي فترة المتابعة والتدريب على الصلاة واستمعال المسبحة وضرب السجدات والسهر على مطالعة الكتاب المقدّس والكتب الروحيّة. إنّها فترة التوبة والتطهّر والانفتاح وتغيير نمط الحياة.
المخاض والولادة: يسند الأب ابنه بدموعه وبصلواته. يزيد ممارساته الروحيّة، يخلّصه من كلّ الشوائب، يقلع منه كلّ زؤان؛ حتّى يصبح كلّه قمحًا، ويضعه على درب الملكوت، ويسير معه حتّى يسلّمه إلى المسيح ذاته.
وفي كلّ هذه المراحل، يتحلّى الأب الرحيّ بالعطف الأبويّ والمحبّة الأبويّة والحنان الأبويّ والاهتمام والمتابعة. ويتألّم لضعفات أبنائه الروحيّين؛ فيبكي من أجلهم كما يبكي ويتألم من أجل خطاياه الشخصيّة، ويقول مع الرسول: "من يتألّم ولا أتألّم أنا من يخطئ ولا أحترق أنا" (2كورنثوس 11: 29). كما يرافق نموّ أبنائه بصلواته ودموعه.
إذا تأمّلنا جيّدًا في الأبوّة الروحيّة، نجد أنها توجد وتتأصّل وتنمو في الحياة الرهبانيّة. فالأديرة هي المشتل الخصب للأبوّة الروحيّة، فيها نرى الرهبان يتدرّبون على الصراعات الروحيّة وعلى الصلاة والسهر والطاعة والعفّة والفقر والتقشّف والصبر. وفي هذا المناخ الطاهر يتطهّر الرهبان ويستنيرون ويمتلئون من حضور الروح ويحصلون على موهبة التمييز.. وإنّي لا أجد إلّا عددًا قليلًا جدًّا من الأشخاص الذين يمكنهم أن يكونوا آباء روحيّين فعلًا. لذا، علينا بالصبر والتريّث في اتّخاذ آباء روحيّين إلى أن يفتقدنا ربّنا بكهنة ورهبان مملوئين من الروح القدس ومشهود لهم بالقداسة.. "الحصاد كثير لكنّ الفعلة قليلون؛ فاطلبوا من ربّ الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده" (متّى 9: 37-38).