الجزء الثاني من الكبرياء للأب المتوحّد سابا أوستابينكو[1]
التجارب الشيطانيّة وضلالها
تميل الطبيعة
البشريّة
إلى الخير والشرّ على حدّ سواء،
وتتقبّلهما بارتياح كلّيّ إن كان مصدرهما
نعمة
الله أو
قوّة
الشرّ
. لا يُرغم
الربّ
النفسَ
على
الخير،
لكنّه
يُعلن
نفسه لها، فقط،
بوداعة، داعيًا إيّاها
إلى
طريق
الخلاص. فتختار هي، عندئذ، ما يوافق إرادتها وميولها:
إمّا العيش
مع
الله
وفق
إرادته المقدّسة
أو
الحياة بحسب
إرادتها
الخاصّة
دون
التفكير
في
العواقب الناتجة عن ذلك
.
لا
تظنّ،
يا
صديقي، إنَّ
الكبرياء
هي
هذا
الهوى أو
المرض
النفسيّ والروحيّ المتأصّل
عند
البعض والذي
يؤدّي
إلى
تغيّرات
فيزيولوجيّة
ومَرَضيّة
في
جسم
الإنسان فقط،
إنّما هي ذاك المرض المُعدي والمسمّ الذي يضرب
البشريّة
جمعاء
باستثناء
القليل
من
المتواضعين الحقيقيّين.
مراحل متعدّدة تصحب تطوّر
هذا
المرض في الإنسان،
وفي كثير من الأحيان ما
يكون
متستّرًا
تحت
غطاء
التواضع
المنافق،
فلا
يُظهر
نفسه بقدره الكامل ما يجعل
الكثيرين يستهينون به ويستسصغرون شأنه
.
يشجّعنا
عدوّ
الجنس
البشريّ،
دائمًا،
على
ارتكاب
الخطايا
والجرائم
المتنوّعة لكونه
محتالًا داهية
وماكرًا
قاسيًا عديم الشفقة.
إنّه
يعرف
جيّدًا
ميول
كلّ
واحد
منّا،
فيهاجم
بمهارة
الجانب الضعيف منها،
وبخاصّة
من لا يتمتّع بإرادة قويّة، لذلك ليس
مستغربًا
أن
يُوقِع
الشيطانُ مثل هذا
الإنسان
بسهولة في الكبرياء ويصرعه. صحيح أنّ
روحنا
مخلوقةٌ
على
صورة
الله
ومثاله
نقيّةٌ
مشرقة ٌتعبق
بعطر الفضائل، وأنّ
نفسنا
بطبيعتها
تسعى
إلى
كلّ
ما هو خير
ونبيل وسامٍ، وتتوق، في
أسرع
وقت
ممكن،
إلى تحقيق الكمال
وبلوغ النعيم. ولكن، وبما أنّ هذه النفس المسكينة عديمة الخبرة، فهي تقع، منذ خطواتها الأولى، في شباك الشرّير وحبائله الخبيثة دون أن يدع لها الوقت الكافي للتفكير لكي تعود إلى رشدها.
إذ كلّما اجتهدت في مجال
الفضيلة للوصول إلى درجة الكمال كلّما اشتبكت في
شباك
العدوّ
بسبب
قلّة
خبرتها، لا سيّما وإن كانت تفتقد إلى
مرشد
روحيّ ينير دربها
. لذلك، بات
هناك
حاجة ماسّة
إلى
قوّة
إرادة جبّارة
حتّى
لا
يرتاع المجاهد من
التجارب
أو يرتعب من
محاربة قوى
الشرّ
.
كلّ إنسان يعيش
بحسب
إرادة
الشيطان، سالكًا الطريق
الواسع
والسهل المفروش ظاهريًّا بالورود، تابعًا أهواءه، ومحقّقًا نزواته ومستجيبًا لصرخة شهواته لا
أُسمّيه
مسيحيًّا.
نعم، ظاهريًّا،
هذا
الطريق
مفروش
بالورود، ولكن
إلى
متى؟ هوّذا أمامنا
مثال
نموذجيّ لرجل
متكبّر
صار
الروح
الشرّير
الماكر وغير المرئيّ رفيقه
الذي
ساعده
على التنعّم بكلّ ما رغب به في هذه
الحياة: الشباب
والصحّة
والجمال
والثروة
والشرف
والمجد
والنجاح
المذهل
والعبقريّة
والمواهب غير مدرك أنّ هذا كلّه
ليس إلّا
تجذيرًا وترسيخًا
للشهوة الأكثر
تدميرًا
أي الكبرياء المهلكة. إنّ الرجل
المُتغافِل اللّامبالي
يتدحرج
بسهولة
على
طول
الطريق
الواسع
المائل نحو الجرف،
ويستمتع مستلذًّا
بَهْرَجَ
السعادة الوهميّة، غير أنّه يجد
نفسه، دون أن يشعر
على
حافة
الهاوية.
... وبما أنّه أصبح
لا
يُطاق
بالنسبة
لمن
حوله،
بدأ الجميع يتحاشونه، وتوقّفوا
عن
الاهتمام
به
وعن إبداء
الإعجاب
بقدراته
ومواهبه،
فكَرِههم حاقدًا عليهم.
ونتيجة لذلك شمل الظلام الدامس كيانه
وأظلم
عقله،
فوصل
إلى
حدّ
الجنون.
ضاع
هدف الحياة لديه،
وبقي له في النهاية
العذاب، لا بل صار الانتحارُ المشؤوم المؤسف ثروتَه الأبديّة، ففرح به الشيطان أيّما فرح
. هذه هي
النهاية
المحزنة
للكبرياء. إنّها المرحلة
المخيفة القصوى منه التي تخطف السعادة الحقيقيّة من
الإنسان، وتبعد عنه محبّة
الله
والناس.
لا
تسمح
لفكرة
(أنا أفضل من الآخرين) أن تتغلغل داخلك.
على
العكس
من
ذلك، أنت
تحتاج إلى بذل العرق والدم
لإجبار النفس
على
التفكير:
(أنا أسوأ من الكلّ)،
مجتهدًا إلى تثبيت
هذا الفكر فيك.
لا
تنسَ،
أبدًا،
أنّ
المتاعب
والتجارب
هي
علامة
اختبار،
وليست
علامة
رفض، إذ إنّ الكثير من المسيحيّين يتعثّرون
ويقعون
في
اليأس ظانّين
أنّهم
منبوذون أو مرفوضون من الله بسببها فيما التجربة
هي، بالحقيقة،
الطريق
المؤدّية
إلى
معرفة
الله.
تُنزل التجربةُ
النفسَ
التقيّة
أوّلًا
إلى
جحيمها المرّ،
ثمّ
ترفعها
إلى
المجد
السماوي، لهذا
لا
تستطيع
أن
تصل
إلى
ملكوت
السموات،
إلّا
إذا
أحرزت انتصارًا على
العالم
والجسد
والشيطان
. طالما
تعيش
الشهوة
في
الإنسان،
لا يمكنه مطلقًا أن يتحرّر
من
التجارب. فقلبه
كالقِدر يغلي فيه
سائل كريه
الرائحة:
الحسد الذي يؤدّي إلى
الكراهية
فالبغض فالكبرياء.
من
السهل
على
الشيطان
أن
يعيش
مع
مثل
هؤلاء
الخطاة
المطيعين له، ولكن الأمر
صعب
عليه
مع الذين
يميّزون
مكائده
ولا
يقعون في صنَّارته
ولا ينصاعون لغوايته،
بل
يعلِّمون
الآخرين، أيضًا، محاربته. ولذلك ولكي ينتقم منهم، يسكب عليهم جام غضبه ويمطرهم بالتجارب.
تخشى الشياطين
الاقتراب
من
الرجل
الصالح التقيّ،
لذلك
يحاولون
بكافّة
أنواع
الدسائس
والمكر والاحتيال
والخِداع
حثّ
معارفهم
وأقاربهم
على
معاداتهم.
وإذا
كان الشخص
متهاونًا
لا
يستمع
إلى
صوت
الربّ
وصوت
الضمير،
فإنّه
يسقط
بسهولة
في
فخّ
الشرّير
ويبدأ
في
التمرّد والثورة
على
الصالحين.
يمكن
للرجل
الصالح
المُضطهَد،
من
خلال
صلاته،
أن
ينزل
نارًا
من
السماء
ويقتل
العديم التَّقوى
المستسلم
لسلطة
الشيطان.
ولكنّه
باعتباره
تابعًا
وتلميذًا
حقيقيًّا
للمسيح،
فهو
يحبّ
مُضطهِده
ويصلّي
من
أجل
خلاصه،
ويصبر عليه
وينتظره
حتّى
يلجأ
إلى
الله
بالتوبة
ويطلب
منه
المغفرة.
هذه
هي
قوّة
الرجل
الصالح
الذي
يحبّ
ويحتمل ويصبر
وينتظر. لهذا
يساعده
الربّ
في
كلّ
شيء،
ويرسل
له
نعمة مُضاعفة
ومواهب
خاصّة
من
الروح
القدس،
ليكمل مسيرته على
خطى
المسيح
المخلّص
. إذًا،
اقتدِ
بربّنا
يسوع
المسيح.
أحبّ
الجميع،
كن
صبورًا
على
الجميع،
افعل
الخير
مع الجميع
وانتظر
نهاية
التجربة.
والأهمّ
من
ذلك، عِش
ليس
بحسب
إرادتك،
بل
وفقًا
لإرادة
الله،
وسترى
رحمته لك
قريبًا وعنايته بك
.
... وأخيرًا، أريد
أن
أحذّرك من
قمع شعورك وكبته، فمثل
هذه
الأفكار
خطيرة
للغاية
. لا
تنسَ،
أنّه
عندما
تكثر الفضائل عند الشخص المتواضع،
تفرح
الملائكة
القدّيسين
بذلك.
وعندما
تكثر
فضائل
المغرور والمعجَب بنفسه،
فإنّ
الشياطين
تفرح
بذلك،
لأنّ
الغرور والعُجب
سرعان
ما
يتحوّلان
إلى
كبرياء
تهلك النفس. وأمّا بالنسبة للمتكبّر الموهوب الذكيّ،
فإنّه من النادر
أن
يلاحظ خطر الكبرياء المحدق به أو كيف
يبدأ
ويأخذ
في
التطوّر داخله، فيصبح من الصعب جدًّا عليه
أن
يحاربه، ولذلك فهو لا يصحّح نفسه، ظانًّا بأنّ الآخرين يتّهموه بالكبرياء بدافع الحسد
.
... أنصحك،
يا
صديقي، أن تنسى
العالم
كلّه
ونفسك
وتستمع
بانتباه
إلى
صوت
مخلّصنا
الوديع الحنون
اللطيف،
الذي
يقول
بمحبّة
للجميع: "تواضعوا
كما
تواضعت
أنا؛
أحبّوا
الجميع
حتّى
الأعداء منهم
كما
أحببتهم أنا؛
اصنعوا
الخير
وارحموا
كما رحمت
أنا.
اتّخذوني
قدوة
واتبعوني". نعم،
يا
صديقي،
إن
شئت،
تستطيع
أن
تسمع
صوت
الله
يتحدّث
سرًّا
إلى
نفسك لا سيّما
إذا تدرَّبت على ذلك
باستمرار. عندما ترى
كيف
يساعدك
الربّ
نفسه
يقوى
إيمانُك، لذلك،
لا
تعلِّق
أهمّيّة
كبيرة
على
أفكارك، وبالأخصّ أفكار التجديف، فلا
تتطرّق
إليها ولا تتوَّقف عندها
ولا
تحلَّلها،
وإلّا
ستقع في
الخطيئة. وإن ألحّت عليك وأربكتك، فلا تيأس، واعلم
أنّها
قد
تزعج
الروح
حتّى
اللحظة
الأخيرة
من
الحياة،
لكنّها
لن
تقوى عليها
إذا
لم تفتر يقظتُها.
القوّة
الشرّيرة
لا
تغفو ولا تنعس، فراقب
نفسك
بدقّة،
وعندما
تبدأ
أفكارك
في
مدحك،
أنصحك
بترداد
الكلمات
التالية: "أنا
أعرف
شيئًا
واحدًا
جيّدًا،
وهو
أنّني
لا
أعرف
شيئًا،
ولا
أملك
شيئًا،
ولا
أستطيع
فعل
أي
شيء
إلّا
الشرّ.
كلّ
شيء
صالح
فيَّ
يأتي
من
الله،
والمجد
يليق
به"، وبهذا تنتصر على نفسك وتتّضع.
[1] تعريب الراهبات عن الروسيّة. عن الموقع الكنسيّ. الأب سابا هو راهب متوحّد رقد في العام 1980 في دير الكهوف في كييف. مقتطفات من النصّ.