الله والشرّ والمصير للدكتور كوستي بندلي
الله والشرّ والمصير للدكتور كوستي بندلي[1]
 
صلاتنا ومصير الراقدين
 
* هل صلواتنا من أجل الراقدين يمكنها أن تقرّبهم من الله؟
 
أوّلاً: منطق عامّ: لقد شاء الله أن تنتقل إلينا محبّته وعطاياه عبر بعضنا البعض: فالبشريّة كلّها فى نظر الله جسم واحد تتآزر أعضاؤها كلّها على إمداده بالحياة والنشاط وعلى قضاء مختلف حاجاته، والله هو المحيي فى آخر المطاف. ولكنّه يشاء أن يشارك كلّ إنسان فى مهمته الإحيائيّة هذه كلّ فى موقعه وكلّ على مستواه؛ هذا ما يتجلّى إن على الصعيد الطبيعيّ وعلى الصعيد الروحيّ:ww-copy.jpg
 
 
أ - على الصعيد الطبيعيّ: إنّ استمرار الحياة وتقدّمها يتطلّبان تضافر الجهود البشريّة وترابط الأجيال، ولكلّ إنسان دوره ومسؤوليّته وأهمّيّته فى تأمين دورة الحياة هذه وفقًا لمواهب كلّ إنسان ومهنته ووظيفته الاجتماعيّة. وإذا نظرنا إلى كلّ إنسان فرد، رأينا أنّ نعمة الحياة التى من الله إنّما يحظى بها هذا الفرد عبر تلقّيها من والديه، وأنّ هذه الحياة لا تنمو ولا تكتمل فيه إلّا عبر عمل طويل من الرعاية والتربية تساهم به الأسرة بنوع خاصّ والمجتمع بشكل عامّ، ولا تستمرّ فيه إلّا بفضل مساهمة العديد من الناس فى تغذيته، كلّ من موقعه. فالعقل من الله يأتي، ولكنّه يحتاج لينمو إلى محيط بشريّ يوقظه وينشّطه. والطعام يأتي من الله فى الأساس، ولكنّه يصل إليّ بواسطة المزارع والطحّان والخبّاز وغيرهم من أصحاب المهن.
 
 
ب - على الصعيد الروحيّ:  فمن الكنيسة يتسلّم كلّ واحد منّا إيمانه، ومن الكنيسة نتقبّل الأسرار التى تبثّ فينا حياة الله، وبتبادل المحبّة والإرشاد والقدوة نعطي الله بعضنا لبعض. والكنيسة كما علّم الرسول بولس، جسد واحد يستفيد فيه كلّ عضو من مواهب الآخرين، فينمون معًا بالتناسق والتكامل فى علاقتهم بالله، حيث دوّن فى رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس الأصحاح الثانى عشر: "... فَأَنْوَاعُ مَوَاهِبَ مَوْجُودَةٌ وَلَكِنَّ الرُّوحَ وَاحِدٌ. فأَنْوَاعُ خِدَمٍ مَوْجُودَةٌ وَلَكِنَّ الرَّبَّ وَاحِدٌ الَّذِي يَعْمَلُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ، وَلَكِنَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ يُعْطَى إِظْهَارُ الرُّوحِ لِلْمَنْفَعَةِ... فَإِنَّ الْجَسَدَ أَيْضاً لَيْسَ عُضْواً وَاحِداً بَلْ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ... لِكَيْ لاَ يَكُونَ اِنْشِقَاقٌ فِي اَلْجَسَدِ بَلْ تَهْتَمُّ اَلأَعْضَاءُ اِهْتِمَاماً وَاحِداً بَعْضُهَا لِبَعْضٍ...". ومن بين القنوات التى ننقل عبرها عطايا الله بعضنا إلى بعض، نجد الصلاة. فكما أنّه يمكننى أن أنقل حياة الله إلى الآخر عبر محبّتي له وتعليمي وقدوتي، كذلك يمكنني أن أنقلها إليه عبر صلاتي من أجله، لذا أوصى الرسول يعقوب: "وَصَلُّوا بَعْضُكُمْ لأَجْلِ بَعْضٍ لِكَيْ تُشْفَوْا..." (يعقوب 5: 16.(
 
** ثانيا: ما ينطبق على العلاقات بين الأحياء ينطبق، أيضًا، على العلاقة بينهم وبين الراقدين. فهؤلاء يصلّون من أجلنا، ونصلّي نحن من أجلهم؛ وهنا لا بدّ أن يعترضنا سؤالان:
 
  1. ألا يفصل الموت بين الأحياء والراقدين بحيث تنقطع كلّ صلة بين هؤلاء وأولئك؟ وهل من اتّصال ممكن بيننا وبين الراقدين، بحيث يُتاح لصلاتنا أن تؤثّر فيهم؟ بالطبع يشكّل الموت فاصلًا قطعيًّا على صعيد التواصل الإنسانيّ الطبيعي؛ الموت يقيم جدارًا رهيبًا بين المحبّين، ولكنّ حاجزه، مهما علا، لا يصل إلى الله؛ فالله أقوى من الموت لأنّه الحيّ الذى لا يموت؛ من هنا إنّ علاقته بنا لا يمكن للموت أن يفكّها. ألم يؤكّد يسوع للصدوقيّين أنّ الله "إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب"، فى حين أنّ هؤلاء كانوا قد توفّوا قبل مئات السنين، إنّما عنى بذلك أنّه: "لَيْسَ هُوَ إِلَهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلَهُ أَحْيَاءٍ لأَنَّ الْجَمِيعَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ"(لوقا 20: 37، 38 ). فإن كنّا جميعًا، أحياءً وأمواتًا، ننتمي إلى الله ونحيا له، أي نحيا بعلاقتنا به، يعني أنّنا لا نزال به على علاقة بعضنا لبعض.
 
لقد صارت الكنيسة، بشكل أخصّ، والبشرية كلّها، بشكل أعمّ، جسدًا واحدًا للقائم من بين الأموات والحيّ إلى الأبد. ومن المسيح الرأس تسري الحياة فى أعضاء الجسد كلّه، أحياء أم راقدين، ولا قدرة للموت أن يفصلهم عنه؛ فإذا كان لا قدرة للموت أن يفصل البشر عن المسيح الذى صار رأس البشريّة، فإنّه لا قدرة له، بالتالي، أن يفصلهم بعضهم عن بعض فى عمق أعماق كيانهم. وهذا ما يتجلّى خاصّة لدى إقامة سرّ الشكر، حيث باتّحادنا بالمسيح بتناولنا جسده ودمه، نلتقي عبره بأعضاء جسده من أحياء وأموات، كما يشير ترتيب الأجزاء المتقطّعة من القرابين لدى التقدمة، حيث أنّ هذه الأجزاء، التى تمثّل الأحياء والأموات، تحيط فى الصينيّة "بالحمل" الذي يمثّل المسيح.
 
** هل أنّ صلاتنا من أجل الراقدين تفعل فى كلّ الأحوال فتقرّبهم من الله، أم إنّ مفعولها مرتبط بما يتّخذونه هم من موقف؟ وبعبارة أخرى: هل يستفيد الراقدون جميعًا من صلواتنا لأجلهم؟ قلنا إنّنا بالصلاة نحمل الله إلى الآخر، حيًّا كان أم راقدًا؛ إنّما يعود لهذا الآخر أن يتقبّل بحرّيّته اللهَ الذى نحمله إليه بالصلاة أو يرفضه، فسرّ الحرّيّة لا يزال قائمًا فى الآخرة كما هو قائم فى الحياة الحاضرة. فإذا تحجّر إنسان ما فى رفضه لله، فهذا، سواء فى هذه الحياة وبعد الموت، لا يسعه أن يتقبّل الله الذى نحاول أن ننقله إليه بصلاتنا؛ هذا الموقف الرافض لله فى العمق هو ما سمّاه الإنجيل "التجديف على الروح القدس" حيث قال: (لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ وَأَمَّا اَلتَّجْدِيفُ عَلَى اَلرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَرَ لِلنَّاسِ" (متّى 12: 31، 32). لا يُغفر له لا لشئ سوى لأنّه بالضبط غير منفتح إلى الغُفران. ولكن من هو المصرّ على رفض الله؟ لا ندري. وهل سوف يبقى إنسان ما رافضًا لله إلى الأبد؟ لا ندري. من هنا صلاتنا إنّما تُرفع عن جميع الراقدين بدون استثناء.
 
** كيف يستفيد الراقدون من صلواتنا؟ إنّ فاعليّة صلواتنا من أجل الراقدين تستند إلى الأساسين التاليين:
  1. اشتراكنا فى شفاعة المسيح: إنّ الوحيد الذى يمكنه أن يقرّبنا من الله، إنّما هو الربّ يسوع المسيح، لأنّه صار بتجسده جسرًا بين الله والإنسان، فصار مَعْبَرًا لهم إلى الله: "لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اَللهِ وَاَلنَّاسِ: اَلإِنْسَانُ يَسُوعُ اَلْمَسِيحُ" (1تيموثاوس2: 5(. من هنا فإنّه يشفع بهم لدى الله، كما يقول الرسول بولس: "اَلْمَسِيحُ هُوَ اَلَّذِي مَاتَ بَلْ بِالْحَرِيِّ قَامَ... أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَا" (رومية 8: 34)، لكنّنا بالإيمان اتّحدنا بيسوع المسيح وأصبحنا نؤلّف "جسده أي الكنيسة" :وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ اَلْمَسِيحِ" (1كورنثوس 12: 27)، وبالتالى أصبح بإمكاننا أن نصلّي معه وله بعضنا من أجل بعض، عالمين بأنّ صلاتنا تبلّغ إلى الله.
  2. بما أنّنا نؤلّف كلّنا جسد المسيح فنحن به متّحدون بعضنا ببعض، وكما أنّ الحياة التى تسري فى عضو من أعضاء الجسم تمتدّ منه لتنشّط باقي الأعضاء، كذلك فإنّ حياة المسيح التى تسري فى كلّ منّا يمكنها لأن تمتدّ عبرنا إلى سوانا بالمسيح يسوع ربّنا. إنّنا عندما نصلّي، يكون المسيح فى وسطنا، ليس فقط من أجل أنفسنا، بلّ من أجل كلّ الذين نحن موصولون بهم، أي من أجل أعضاء جسد المسيح، الذين هم المؤمنون بنوع أخصّ. ثمّ إنّ هذه الصلة العضويّة لا تجمعنا بالأحياء، فقط، بل وبالراقدين أيضًا، لأنّ الموت، وإن فصلنا بالظاهر بعضنا عن بعض، إلّا أنّه لا يقوى على فصلنا عن المسيح: "مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ اَلْمَسِيحِ؟... فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ وَلاَ مَلاَئِكَةَ... وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اَللهِ اَلَّتِي فِي اَلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا" (رومية 8: 35، 38، 39). من هنا أنّنا بالمسيح لا نزال متّصلين لا بالأحياء، وحسب، بلّ وبالأموات أيضًا من إخوتنا.
 
** هل نساعدهم، حتّى بعد أن رقدوا، فى التقرّب من الله؟ ولكن، هل بإمكانهم أن يفتحوا القلب لصلاتنا؟ هذا ممكن، حتّى بعد الموت، إذا ما بقي هذا الراقد يلتمس الله بالروح التى بقيت منه بعد موته، والتى تخلد بفضل حبّ الله، وتحييه، فهذه الروح الخالدة قد تكون لا زالت طالبة الله وملتمسة إيّاه، مستجيبة لنداء حبّه. فالكنيسة تعلّم أنّ العديد من المؤمنين الذين عاشوا حياتهم الأرضيّة، وهم يسعون إلى الله، وماتوا وهم على هذا السعي فى توبة إليه، ولكنّهم لم يبلغوا إلى حدّ ترسيخ هذا الاتّجاه إليه بحيث يصبح كلّيًّا ونهائيًّا، بل بقوا إلى حدّ ما متأرجحين بين الله وبين أهوائهم ... هؤلاء عليهم تنطبق هذه الكلمات التى تُنشد فى خدمة" الختن" فى بداية أسبوع الآلام" إنّنى أشاهد خدرك مُزيّنًا يا مخلصي، ولست أمتلك وشاحًا للدخول إليه، فأبْهجْ حلّة نفسي، يا مانح النور، وخلّصني".
 
إنّ إيمان الكنيسة الأرثوذكسيّة فى عقيدة الصلاة إلى ومن أجل الراقدين، عقيدة راسخة؛ إنّها طقس من طقوس الكنيسة وليست سرًّا من أسرارها، لأنّ للأسرار الكنسيّة مفاعيل لا تتمّ ولا تفيد إلّا المؤمن الحيّ. إنّ من واجب الكنيسة أن تصلّي لأجل الجميع حتّى الذين سبق رقادهم، ومن حقّ الله أن يتقبّل هذه الصلوات ويرفضها.
ومن الذى أعلمنا أنّ صلواتنا هذه عن نفوس منتقلة لن تكون مقبولة أمام الله حتّى لا نرفعها؟ إنّنا نكون مقصّرين نحو هذه النفوس لو لم نطلب عنها ومن أجلها، ولكن لن نجازى من الله على أنّنا صلّينا لأجل نفس منتقلة!!! إنّ الكنيسة تصلّي من أجل راحتهم فى أحضان آبائنا القدّيسين إبراهيم وإسحق ويعقوب (لوقا 16: 13، 22( حيث ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن وما لم يخطر على قلب بشر (1 كورونثوس 2: 8، 9). لهذا، فنحن نطلب مصلّين إن كان قد لحقهم توانٍ وتفريط كبشر وقد لبسوا جسدًا فى هذا العالم (رومية 5: 14، أفسس 4: 26، 1يوحنّا 2: 1)... لأنّه ليس أحد طاهرًا من دنس ولو كانت حياته يومًا واحدًا على الأرض (1يوحنّا 5: 7، يوحنّا 8: 27، 1تيموثاوس 5: 24)...
 
إنّ الكنيسة، كأمّ، ترافق أولادها من بداية مسيرتهم مع الله إلى نهايتها؛ تقدّم الاستنارة لكلّ إنسان آت إلى الإيمان بالمعموديّة والتعليم، وترافقه فى فترة غربته على الأرض، وتقدّم له كلّ وسائط النعمة والأسرار حتّى يتكلّل بالبرّ فى النهاية، وترافقه، أيضًا، فى لحظات انتقاله وتؤازره بصلواتها حتّى يأتي إلى مستقرّه الأخير. إنّها لم تكفّ، ولن تكفّ، على أن تصلّي لأجل أولادها لأنّها كأمّ تشعر بمسؤوليّتها عنهم جميعًا. وكما أنّ كلّ إنسان سيقف أمام كرسي المسيح ليدان عن كلّ ما فعل فى الجسد خيرًا كان أم شرًا، فإنّ الكنيسة تطلب الرحمة والرأفة من قِبل الربّ الرحيم، لأنّه لا يستطيع أحد أن يتبرّر أمام الله إن لم تدركه مراحمه. من أجل هذا تطلب الكنيسة قائلة:" هب لهم خيرات مواعيدك... فأنت، كصالح ومحبّ البشر، اللهمّ اغفر لعبيدك المسيحيّين الأرثوذكسيّين الذين فى المسكونة كلّها من مشارق الشمس إلى مغاربها ومن الشمال إلى الجنوب كلّ واحد باسمه وكلّ واحدة باسمها يا ربّ نيّحهم واغفر لهم". إنّ أجساد المؤمنين التى تصلّي عليها الكنيسة هى أجساد قد تمّ تدشينها فى أسرار الكنيسة المقدّسة، فالمعموديّة جعلت من الإنسان ابنًا لله، والميرون جعل هذا الجسد هيكلًا للروح القدس، وسرّ الإفخارستيا أعطى لهذا الجسد أن يكون شريكًا لجسد المسيح له المجد ذاته.
 
 
[1] مقتطفات من الفصل السابع: الدينونة والمصير(ج2).