لا تهرب من التعب للأب إمليانوس 1
الخطيئة موجودة كلّ حين، ولن تكفّ عن الوجود إلاّ إذا نقض الله حرّيّتنا وألغاها، ولكنّ الله لا يلغي حرّيّتنا أبدًا. ولذلك فإنّ قرار أن نحكم أنفسنا بأنفسنا، أو أن نعيش حياة النقاوة أو الخطيئة، أو الاستكانة لأفكارنا وشهواتنا وتخيّلاتنا يعود إلينا. ولنعلمْ علم اليقين بأنّ الخضوع لمحبّة المال، للذات، لصلابة الرأي والعناد، للعصيان، لثقتنا بصحّة آرائنا وأفكارنا ومعرفتنا، لإتمام إرادتنا، كلّ هذا يجعلنا مساوين لعبدة الأصنام، ويعطي الحقّ ليصبح هؤلاء هم حاكمينا، فنخسر بذلك قوّة الله الكائنة داخلنا والعاملة فينا. في كلّ هذه الحالات يصبح الإنسان ألعوبة بيد الشيطان، وخاضعًا لقواه. كما يصبح للشيطان حقّ على الإنسان، وشيئًا فشيئًا يصبح هذا الحقّ حقًّا متجذّرًا، فيُشقي الإنسان حتّى لا يعود يجد راحة ولا هدوءًا حتّى آخر حياته.
لا بدّ أن نشير هنا إلى نقطة مهمّة وهي أنّه من يفقد التوبة يختلّ توازن حياته الروحيّة، أو بكلمة أخرى إنّ التوبة هي علامة توازن الحياة الروحيّة عند المجاهد، وإلاّ انتهى به الأمر إلى الوقوع في الشراهة وحب البِطنة، وبعد ذلك في الثرثرة، ثمّ في جذب محبّة الآخرين له، لكي يصبح هو محور الحياة، وأن يكون له أهمّيّة خاصّة في المحيط الذي يعيش فيه. وعندما لا يوليه أحد هذه الأهمّيّة، إذ إنّ كلّ واحد غارق في الاهتمام بنفسه ومشاكله وحياته الخاصّة، يبدأ أن يعتلّ ويمرض.
نحن البشر لا نكفّ عنّ التذمّر، إذ لا شيء يرضينا، ولذلك لا تعرف شفاهنا آيّات الشكر لله. فإن جاءتنا، مثلًا، العذراء نفسها لكي تمنحنا شيئًا من الاستنارة، أو لتبارك لنا جهادنا، فإنّنا وحتّى في هذه الحالة لا نشكر. وإن رحلت عنّا نحتجّ قائلين: لماذا رحلت العذراء، وماذا فعلتُ لها حتّى رحلت؟ نحن نحتاج، بالحقيقة، إلى الهدوء، وإلى ثبات الروح القدس في قلوبنا.
الهدوئيّة هي المناخ الداخليّ والخارجيّ للإنسان الروحيّ، هي السلام واستنارة القلب الذي يصرخ من الأعماق: أبّا أيّها الآب" (غلا 4: 6). الله موجود داخل القلب، ومن هناك يعلن لنا حضوره ويكشف ألوهيّته.
الهدوئيّة وسلام النفس وإمكانيّة العيش مع الله بهدوء فُقدوا لوجود الخطيئة، وعاد الإنسان لا يجد الهدوء أنّى توجّه لا في قلاّيته ولا في صلاته. يصلّي، ويشعر بأنّ صلاته لا تصل إلى أذنيّ ربّ الجنود، وكأنّه لا يسمعها، وعندئذ لا يجد هذا المسكين الراحة لا في الوحدة ولا مع الجماعة مع العلم بأنّ راحته الحقيقيّة تكمن في علاقته الصحيحة مع شخص واحد يريحه هو المسيح. وهكذا فإنّ الإنسان يتعذّب باستمرار ويصرخ "ويحي أنا الإنسان الشقيّ" (رو 7: 24)، وتصبح، عندئذ، له الأتعاب ثقلًا. أمّا الإنسان الروحيّ المجاهد السائر في درب القداسة، فيقول لنفسه: "لا ترغب الآن، أيّها الشقيّ، بالراحة ولا تطلب الفرح، ولا تسعى وراء تزكية ذاتك لأنّها تمزّقك داخليًّا. الآن هو وقت سحقك وانسحاقك، وقت آلامك، وفي وسط شدّة هذه الآلام ستجد السلام والهدوء والنعمة، فالمزمور يقول: ’ياربّ إنّ تعزياتك فرّجت عن نفسي حسب كثرة أكداري في قلبي‘ (مزمور 93: 19)".
إنّ الإنسان، بالحقيقة، هو المذنب، لأنّه لا يكفّ عن ارتكاب الخطأ قائلًا لله: "اغرب عنّي، فإنّ معرفة طرقك لا أبتغيها" ( أيّوب21: 14). إنّ الشيء الوحيد الذي يستطيع الإنسان أن يقدّمه إلى الله كبخور ذكيّ هو آلامه وأتعابه، فاقبل، إذًا، التعب بما أنّك أنت الذي أوجدته لنفسك منذ البدء.
لا تتهرّب من الأتعاب، لأنّك بتهرّبك هذا تبتعد عن الراحة الحقيقيّة والسلام والبهجة. واعلم أنّك عندما تتعب ستنال نعمة الروح القدس، وتاليًا السلام والراحة والهدوء. وثق بأنّ الله ينعم عليك بالهدوء عندما يرى نفسك مستعدّة لذلك، وأمّا عندما لا تحسّ بنعمة كهذه، فاعلم أنّك لست مستعدًّا لها، وإن مُنحتها نزولًا عند إصرارك وأنت غير مستعدّ، فسوف تكون لهلاكك. عليك أن تجاهد، لأنّ ما ينبغي أن تقدّمه، الآن، للربّ هو أتعابك المستمرّة، فقط، فهذا هو استشهادك، وهذا هو طريقك. ينبغي أن تحبّ الألم والأتعاب، فبها تُري الله أنّك تحبّه حقًّا.
كثيرون يتكلّمون على الكمال في الحياة الروحيّة، ويظنّون بأنّه من الصعوبة بمكان الوصول إليه، ولكنّ الكمال، في الحقيقة، ليس أمرًا لا يُقترب إليه، بل هو أمر نعيشه كلّ يوم. فكما يتطابق الغطاء مع وعائه، هكذا يتوافق الكمال مع حياتنا اليوميّة. نحن نطبّق الكمال في مسيرتنا الرهبانيّة، وهذا ما يمدّنا بالفرح. إنّ الكمال ليس هو حبّ المجد، ولكنّه يصبح هكذا عند الذين يهربون من التعب، وينشغلون بما أغدق الله على الآخرين من نِعَم، ولم يمنحهم بالمثل. فالمحبّ المجد ينظر قبل أن يبدأ إلى النتيجة، وأمّا المتواضع، فلا ينظر سوى إلى التعب نفسه وإلى حبّ التعب.
الشوق إلى الكمال ليس هو حبّ المجد ولا الرجاء في المستقبلات ولا هو مكان محظّر البلوغ إليه، وليس هو أمرًا نريد الوصول إليه ولا نستطيع. إنّه حياة ملموسة، ولكنّه مع أنّه ملموس لا ينفي كونه إلهيًّا. الكمال والحياة الروحيّة هما الله نفسه.
[1] مقتطفات من القانون الثامن والستّين. عن اليونانيّة من كتاب حياة اليقظة والقوانين النسكيّة قوانين القدّيسين أنطونيوس وأغسطينوس ومكاريوس للأب إميليانوس رئيس دير سيمونس بترس.