هل للشيطان من حقّ (سلطة) علينا؟
للقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم
[1]
إنّها الساعة المؤاتية لنبسط مائدتنا؛ ولكن، ماهو نوع الطعام الذي سنقدّمه؟ يشغلنا، بالحقيقة حاليًّا، موضوع الشيطان، ليس لأنّ الكلام عنه يبهجنا ويسرّنا، إنّما إلقاءُ بعض الضوء عليه هو أمن وسلامة لنا. من هو الشيطان؟ إنّه، بلا شكّ، عدوّنا وخصمنا، لذلك بات ومن المهمّ أن نتعرّف إلى ما يتعلّق بأعدائنا.
لا يغلبُ الشيطانُ لا بالتسلّط ولا بالإرغام والغصب، لأنّه إن كان الأمر كذلك، فالكلّ مصيرهم الهلاك والدمار؛ ولنا مثال على ذلك الخنازير التي ورد ذكرها في الإنجيل المقدّس، فإنّ الشياطين لم يستطيعوا الدخول فيها قبل أن يسمح لهم الربّ بذلك، ولم يتمكّنوا من إهلاك قطعان أيّوب الصدّيق قبل أن يعطى لهم الحقّ بذلك من فوق. إذًا، لا يقدر الشيطان أن يتسلّط علينا لا بالقوّة ولا بالإكراه، إنّما بالخداع، ولذلك فهو لا يستطيع إهلاك إلّا الذين ينخدعون بتمليقاته؛ فأيّوب الصدّيق الشجاع، مثلًا، لم يغلبه خصمُه، رغم المكائد التي أثارها ضدّه، ولم يستسلم لافتراءاته، فكان مصيره الفرار والمغادرة مغلوبًا.
فإن كان العدوّ الشرّير لم ينتصر على أيّوب وإنّما هُزم، لكنّه، بالمقابل، استولى على آدم وخدعه وغرّر به. وإن كان الشيطان قد غُلب من واحد، إلّا أنّه انتصر على الكثيرين، فقد يتمكّن منه عشرةٌ، غير أنّ ثمّة عشرة آلاف تمكّن هو منهم! فلو رفع اللهُ الشيطان من الوسط لما خُدع أوّل الجبلة، ولما هلك هؤلاء، أيضًا، فماذا نقول، إذًا، إزاء هذا؟
إنّ هؤلاء المنتصرين هم أعزّاء جدًّا في نظر الله نظرًا لجهادهم سيّان كانوا كثرًا أم قلّة، فالكتاب يقول: "واحد يتّقي الربّ خير من ألف منافقين" (سيراخ 16: 3)، لذلك إن غاب الشيطان عن الحلبة يتضرّر المنتصر نفسه أكثر من المغلوب لخسرانه إكليل الغلبة.
ولكي يأتي كلامنا واضحًا، هاكم هذين المثالين: شخصان، يقع الأوّل بيسر في الشراهة المذمومة والكسل المهلك، فيصبح واهنًا ضعيف الجسد متخاذلًا؛ والآخر مجاهد نشيط يهتمّ بعمله صحيح البنية يمضي جلّ أوقاته في التمارين الرياضيّة لا يترك نوعًا من أنواعها إلّا ويمارسها ويتقنها. فإن رفعنا العدو من بينهما، فمن من الاثنين يتأذّى أكثر، الخامل أو المجاهد؟ من المؤكّد الثاني؛ لأنّ الأوّل يدان من كسله وبلادته ولذلك لا يضرّه الشيطان، بل لا يقترب منه بما أنّه مغلوب من استسلامه للهوى ومقهور منه.
وسوف أورد لكم ردًّا آخر لكي تعلموا بأنّ الشيطان لا يؤذي، بل، بالحري، الهوى المسيطر سواء كان كسلًا وتراخيًا أو... ولا سيّما لمن يفتقد منكم لليقظة والانتباه.
يدعى الشيطان
الكثير الشرّ رغم أنّ شرّه ليس بطبيعته بل بميله وفساد رأيه، كما تدلّ عليه لفظته التي تعني الواشي أو المتّهِم ظلمًا (
Diable, Dia.boloj). وبالحقيقة هو هكذا، ألم يشي بأيّوب ويتّهمه لدى لله قائلًا: "أمجّانًا يتّقي أيّوب الله... ولكن ابسط يدك وامسس جميع ماله فتنظر ألا يجدّف عليك في وجهك" (أيّوب 1: 9-11). ثمّ، ألم يتّهم إبليسُ اللهَ لعنفه تجاه الإنسان، فماذا قال على لسان العبد؟ "لقد سقطت نار الله من السماء وأحرقت الغنم" (أيّوب 1: 16). إنّه يحاول بشتّى الطرائق أن يخلف بين الله والإنسان وبين الإنسان والله مع أنّه دائم الإخفاق في هذا المسعى. وقد تسألني وماذا مع آدم؟ فأجيبك: الحال واحد، فخلاف آدم مع سيّده، الله، مردّه توانيه وغفلته التي استعملهما الشيطان ولذلك غُلب وقُهر.
يسمّى الشيطان بالشرّير. وهذا الشرّ لا يعود إلى الطبيعة، كما أسلفنا، وإنّما
إلى الميل الحرّ أو الاختيار الحرّ؛ لأنّ هذا قد يتحقّق، أحيانًا، وقد لا يتحقّق أحيانًا أخرى. فالشيطان لم يكن شرّيرًا منذ البدء، إنّما حصل هذا لاحقًا، ولذلك سمّي عاصيًا ومتمرّدًا ومنشقًّا. وإن كنّا نصف البعض بأنّهم أشرار، إلّا إنّنا نصفه هو وحده بأنّه
الشرّير. ولماذا نطلق عليه هذا الاسم؟ لكوننا لم نسئ إليه بشيء فيما هو يحاربنا ويعادينا من دون سبب موجب.
إذًا، ليس الشيطان من يسبّب لك الضرر والشرّ والخطيئة إن كنت مجاهدًا يقظًا منتبهًا إلى حياتك، وإنّما
ميلك الحرّ نحو الهوى. واعلم بأنّ الكسول المتراخي ولو غاب الشيطان من حياته، فإنّه يرمي نفسه بنفسه في مهاوي لا عدد لها ويعرّضها لشرور كثيرة، ثمّ يلقي بالتهمة على خصمه أي على الشيطان.
كلّنا نعلم بأنّ الشيطان شرّير وسيّئ، ولكن ماذا يمكننا القول عن الخليقة الجميلة والمدهشة في تركيبها؟ هل الخليقة التي أوجدها الله سيّئة؟ ولكن من هو ذاك المخالف للصواب والمنطق حتّى ينتقد خليقة كوّنها الله بدقّة متناهية؟ ماذا لدينا لنقول عنها؟
الخليقة بديعة وحسنة وليست سيّئة ولا فاسدة على الإطلاق. إنّها إعلان عن حكمة الله وقوّته ومحبّته للبشر ما جعل النبيّ يصرخ: "ما أعظم أعمالك يا ربّ كلّها بحكمة صنعت" (مزمور 103: 24)، والحكيم سليمان يقول: "فإنّه بعظم جمال المبروءات يُبصَر فاطرها على طريق المقايسة" (حكمة 13: 5)، والرسول بولس يكتب: "لأنّ غير منظوراته قد أُبصرت منذ خلق العالم إذ أُدركت بالمبروءات وكذلك قدرته الأزليّة وألوهته" (رومية 1: 20). فكلّ هؤلاء يعلنون لنا بأنّ الخليقة هي إحدى المصادر التي تقود إلى معرفة الله؛ فماذا إذًا، هل نقول إنّ هذه الخليقة الجميلة صارت سببًا لعدم الإيمان لدى الكثيرين؟ أبدًا، بل لأنّهم لم يستعملوا الدواء كما يجب. وأين هو سبب عدم التقوى هذه؟ اسمع جواب الرسول بولس: "فإنّهم لمّا عرفوا الله لم يمجّدوه لم يشكروه كإله بل سفهوا في أفكارهم وأظلمت قلوبهم الغبيّة" (رومية 1: 21). فهنا لا يوجد شيطان ولا إبليس ليخدع، إنّما الخليقة التي توصل إلى معرفة الله، فكيف صارت سببًا للجحود وعدم التقوى؟ إنّه عدم التفاتهم إلى صانعها الذي أبدعها في هذا الجمال والحُسن، فقل لي: هل نُزيل الطبيعة ونلغي وجودها من وسطنا لئلّا تكون علّة لخطيئتنا؟
وما لنا وللخليقة، هيّا لنرى أعضاءنا التي كثيرًا ما تكون سببًا في هلاكنا، فهي لا تؤذينا بسبب طبيعتها الفاسدة وإنّما بسبب تراخينا وعدم استعمالها الحسن. فالعيون، مثلًا، أعطيت لنا لنتمتّع بخليقة الله ونمجّده عليها، ولكنّها تتحوّل سببًا للزنى إن أسأنا استعمالها. لساننا أعطي لنا لنرفع التسبيح للربّ، وإن لم نسهر على ألفاظنا يصبح أداة للتجديف على الربّ. أعطيت لنا الأيدي لنرفعها في الصلاة، غير أنّنا إن لم نتسلّح باليقظة نبسطهما للشراهة الممقوتة والسرقة وكلّ خطيئة أخرى. الرجلان لكي تخدمنا في قضاء الأعمال الصالحة، بيد أنّهما يقوداننا في طريق معاكس إن تغافلنا.
لقد خلق الله السموات والأجرام بحُسن يدعو إلى الانذهال والحيرة من دقّة نظامها، فتدعونا للسجود وتمجيد مبدعها؛ ولكن السماء نفسها صارت علّة لترك الله وعبادتها هي نفسها بسبب الجهل والغفلة. الصليب، قمّة الخلاص صار هو أيضًا "عند الهالكين جهالة... وشكًّا لليهود وجهالة للأمم" (1كورنثوس 1: 18-23). حتّى الربّ يسوع نفسه رأس خلاصنا، ماذا قال في إنجيل القدّيس يوحنّا؟ "أتيت إلى هذا العالم للدينونة لكي يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون" (يوحّنا 9: 39). فهل أصبح النور مصدرًا للعمى والعجز؟ كلّا. لم يتحوّل النور هكذا، وإنّما ضعف النفس لم يستطع تحمّل سطيع النور.
وهكذا نجد أنّ الضعيف يتأذّى من كلّ شيء فيما القويّ يتقوّى في كلّ شيء ولا يضرّه أمر حتّى الشيطان نفسه، لأنّ
ميل النفس هو السبب الرئيس لتحوّل الشخص من الصلاح إلى الفساد. فالشيطان، إذًا، في هذه الحالة مفيد لنا، لا بل هو كثير الفائدة لأنّ الربح الذي يسبّبه ليس بقليل ولا بتافه ولا برخيص، وهذا ما أوضحه القدّيس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس بقوله: "أن يُسلَّم مثل هذا إلى الشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروحُ في يوم ربّنا يسوع المسيح" (1كورنثوس 5: 5). هنا صار الشيطان مصدر خلاص وليس هلاكًا. فلا نخافنّ إغراء الشيطان، إذًا، ولو كان عادم الجسد. لقد كُسرت قوّته، ولا يوجد أوهى من الذي فقد قدرته.
لا أستفيض في عرض هذا كلّه لكي أبرّر الشيطان، بل لكي أحرّركم من تهاونكم، وأبيّن لكم الخطر الجسيم الكائن في الخضوع لميولنا المنحرفة؛ فالشيطان، من دون أدنى ريب، يريد أن نلقي على رأسه تهمة خطايانا، لتكون له فرصة مؤاتية يغذّي بها أفكارنا بكلّ نوع من الأسواء ويكدّسها داخلنا. وأمّا نحن، فلجهلنا نتراخى في دفعها، ملقين التهمة عليه، تمامًا، كما فعلت حوّاء، فنقع تحت الجريرة ونعاقب ولا نعود نحظى بالغفران إلّا بالتوبة. فلا نفعلنّ هكذا، يا إخوة، بل لنتعرّف إلى جراحاتنا حتّى نتمكّن من وضع الأدوية المناسبة عليها لتشفى؛ لأنّ من يجهل مرضه لن يتلقّى أيّة عناية ولا شفاء.
لا شكّ بأنّنا أخطأنا بطرائق مختلفة وكثيرة، وهذا ما يعرفه كلّ واحد منّا جيّدًا، إذ كلّنا نئنّ تحت العقاب نفسه، ولكنّنا لسنا محرومين مع ذلك من الغفران ولا من التوبة لا سيّما وأنّنا جميعًا نجاهد في سبيل اقتنائها. هل أنت شيخ وقد قاربت الخروج من هذه الدنيا؟ وحتّى في هذه الحالة لا تفقد شجاعتك، مدّعيًا بأنّ التوبة باتت بعيدة منك؛ لا تيأس من خلاصك، بل تفكّر باللصّ المعلَّق على الصليب كيف نجا وكُلِّل بلحظة قصيرة واحدة. أأنت شابّ يافع؟ لا تعتمد على صباك وقوّتك، ولا تظنّ أنّه الحياة كلّها أمامك، فقد يفاجئك يوم الربّ كاللصّ في الليل (1تسالونيكي 5: 2). التغيّر المستمرّ من مستلزمات الحياة ومن صفاتها، ومن الثابت أنّنا لسنا أسياد نهاية حياتنا، بل لنكن أسيادًا في الفضيلة واقتناء التوبة والتقوى، وسوف نحظى بالغفران.
[1] Peri. th/j dexousi.aj tou/ diabo.lou) VIwa.nnou tou/ Crisosto.mou) :Erga) To.moj deu.teroj $VHqika. kai. Koinwnika. B ,%) :Ekdoseij o` Lo.goj VAqhnai 1968)