وصيّة إنكار الذات للقدّيس روفائيل هواويني
[1]
4 كانون الثاني 2024
من تأمّل بمجموع الوصايا الإنجيليّة رأى أنّ منها ما هو واضح المعنى سهل الإجراء، ومنها ما هو غامض المعنى صعب الإجراء. فمن جملة هذه الوصايا الأخيرة التي تظهر لنا غامضة المعنى صعبة الإجراء هي وصيّة إنكار الذات التي يأمرنا بها المخلّص بقوله: "من أراد أن يتبعني فلينكر ذاته ويحمل صليبه ويتبعني" (مرقص 8: 34).
أمّا معنى هذه الوصيّة بحسب تفسير آباء الكنيسة القدّيسين فهو أن كلّ "من أراد أن يتبع المخلّص يسوع المسيح"، أي كلّ من شاء ورغب في أن يكون تلميذًا حقيقيًّا ليسوع المسيح وعضوًا عاملًا في كنيسته المقدّسة التي هي جسده وهو رأسها الوحيد (أفسس 1: 22 و3: 15 و16) يجب عليه:
أوّلًا: أن "ينكر ذاته"، أي أن يكبح جماح شهواته الجسديّة ويقمع ثورات أمياله الطبيعيّة، ولا سيّما المحبّة الذاتيّة، أعني بها الكبرياء والادّعاء وسائر الأغراض النفسانيّة التي تمنع الإنسان عن محبّة الله والقريب محبّة حقيقيّة.
وثانيًا، أن "يحمل صليبه"، أي أن يحتمل بكلّ صبر وأناة جميع أنواع الأحزان والأكدار والمصائب والنوائب والملمّات والنكبات والإهانات والاضطهادات، حتّى الموت نفسه، في حين اللزوم، لمجد الله وخير القريب المظلوم.
وثالثًا وأخيرًا أن "يتبعه"، أي أن يقتفي أثره، مقتديًا على قدر الإمكان بالمعيشة التي عاشها المخلّص على الأرض كإنسان محبًّا ومحسنًا للجميع في كلّ مكان وزمان.
... ولا ينكَر كون هذه الوصيّة الإنجيليّة تظهر صعبة وثقيلة على الطبيعة البشريّة، ولا سيّما في عصرنا الحاضر، نظرًا لفتور إيمان الكثيرين وعدم اكتراثهم للأمور الدينيّة.
ولهذا إذا ما ذكرتَ أمامهم وصيّة إنجيليّة سامية مثل وصيّة إنكار الذات أجابوك بهزء قائلين: كيف تدعو يسوع المسيح بالسيّد الرؤوف والرحيم، في حين أنّه يضع على عاتق من يريد أن يتبعه مثل هذا الحمل الثقيل والنير العظيم؟
على أنّ وصيّة إنكار الذات إنما تظهر حملًا ثقيلًا ونيرًا عظيمًا لمن يكون إيمانه فاترًا أو ضعيفًا. وأمّا من كان إيمانه حارًّا وقويًّا فإنّه يرى نير المسيح ليّنًا وحمله خفيفًا، ولا يرتاب بقوّة الإيمان التي تنقل الجبال، لأنّه يعتقد تمام الاعتقاد بقول السيّد القائل: "كلّ شيء مستطاع للمؤمن" (مرقس 9: 23).
فإذا كنّا والحالة هذه نستصعب وصيّة إنكار الذات فهذا دليل صريح على كوننا قليلي الإيمان بيسوع المسيح أبي المراحم والرآفات. وإلّا، أي إذا كان إيمانًا بيسوع المسيح عظيمًا، فما الذي يمنعنا عن أن نحتمل بكلّ صبر وثبات جميع أنواع التجارب والاضطهادات لأجل المسيح، الذي احتمل لأجلنا أشدّ الآلام والعذابات حتّى الموت على الصليب بكلّ صبر وأناة؟
ما الذي يمنعنا عن أن نعتني بخير قريبنا الذي اعتنى بخلاصه يسوع المسيح رئيس إيماننا؟
ما الذي يمنعنا عن أن نهتمّ على الأقلّ بخلاص نفوسنا التي سفك الربّ يسوع دمه الطاهر على الصليب من أجلنا؟
بل ما الذي يمنعنا عن أن نضحّي نحن أيضًا ذواتنا من حين اللزوم حبًّا بالسيّد المسيح مخلّصنا العظيم ورئيس إيماننا القويم؟ أوَ ليس ألوف بل ربوات من الشهداء القدّيسين قد سفكوا دماءهم وضحّوا حياتهم بعذابات متنوّعة وميتات متعدّدة حبًّا بيسوع المسيح.
فهات الآن لننظر إذا كنّا نحن الذين ندّعي اليوم بكوننا مسيحيّين لا بل مسيحيّين قويمي الرأي أرثوذكسيّين، فهل ترانا محافظين بالقول والفعل على وصيّة إنكار الذات؟
أو هل ترانا سالكين بمقتضى تلك الشروط الثلاثة التي يطلبها المخلّص نفسه من كلّ من أراد ورغب في أن يكون من تابعيه وتلاميذه المخلصين؟
فالشرط الأوّل هو: "أن ننكر ذواتنا"، فهل نحن سائرون بموجب هذا القانون؟ أعني إذا ثارت فينا شهوة الجسد داعية إيّانا إلى فعل الخطيئة، فهل نكبحها في كلِّ أين وآن؟
أو إذا هاجت فينا ثورة الغضب دافعة إيّانا إلى الإضرار بقريبنا، فهل نقمعها في كلّ مكان وزمان؟
أو إذا مال بنا قلبنا للانتقام وهدم أركان المحبّة والسلام، فهل نضبط ميلنا الشرّير هذا على الدوام؟ فإذا كنّا سائرين على هذا المنوال فنحن مسيحيّون بدون شكّ ولا جدال. وإلّا فنحن محتاجون إلى التوبة. فلنتب ما زلنا في قيد هذه الحياة إذ لا توبة بعد الممات.
والشرط الثاني هو: "أن نحمل صليبنا"، فهل نحن سائرون بموجب هذا القانون؟
أعني إذا دهمتنا مصيبة فهل نتلقّاها بالصبر والشكر بدون تضجّر أو تذمّر على العناية الإلهيّة؟
أو إذا حدثت لنا إهانة فهل نحتمل ألّا نقابلها بالمثل أو بدون أن نلجأ على الوسائط العدائيّة؟
والشرط الثالث هو: "أن نتبع المخلّص"، فهل نحن سائرون بمقتضى هذا القانون؟
فالسيّد قد أوصانا بالصلاة والصيام، وهو نفسه قد صلّى وصام. فهل نحن محافظون على هذه الوصيّة المسيحيّة؟
السيّد قد أمرنا في الإنجيل بأن نحبّ أعداءنا ومبغضينا، ونبارك لاعنينا وشاتمينا، ونحسن إلى مؤذينا ومضرّينا. وهو نفسه قد أحبّ مبغضيه وبارك لاعنيه وأحسن إلى جميع المسيئين إليه. فهل نحن سالكون بمقتضى هذه الوصيّة الإنجيليّة؟
السيّد قد أوصانا أن "نعطي ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، أي أن نحترم ونخضع لذوي السلطان الروحيّ والمدنيّ في كلّ مكان وزمان، "لأنّ كلّ سلطان من الله، والسلاطين الكائنة إنّما رتّبها الله. فمن يقاوم السلطان فإنّما يعاند ترتيب الله، والمعاندون يجلبون دينونة على أنفسهم" (رومية 13: 1-2).
والسيّد نفسه في كلّ مدّة إقامته على الأرض كان خاضعًا للسلطان الروحيّ أي لأبيه السماويّ، وللسلطان المدنيّ أي للقيصر الرومانيّ، وقد دفع له الجزية بكلّ خضوع واحترام.
فهل نحن متّبعون هذه الوصيّة الإلهيّة؟ فإذا كنّا سائرين بمقتضى جميع الوصايا الكتابيّة فنحن مسيحيّون حقيقيّون، وإلّا فنحن محتاجون إلى التوبة. فلنتب ما زلنا في قيد هذه الحياة إذ لا توبة بعد الممات.
[1] القدّيس روفائيل هواويني أسقف بروكلين. الأعمال العربيّة الكاملةالجزء الأوّل. جمع وتحرير: د. عدنان أديب طرابلسي. مقتطفات من المقال ص646.