الاعتراف بتوبة للأب جورج كبساني
رئيس دير غريغوريّو في جبل آثوس (١)
في 5/4/2022
التوبة ليست شيئًا آنيًّا، بل هي انجذاب قويّ نحو الله... لكي يستطيع الإنسان المسيحيّ أن يقتبل المسيح وإنجيله ينبغي أن يعيش في حالة توبة مستمرّة. لذلك فالتوبة بالنسبة لنا نحن الأرثوذكسيّين هي موقف حياة لذلك نتكلّم عن حياة التوبة وليس، فقط، عن لحظات توبة. وهنا أريد أن أذكّركم بالفرق بيننا وبين البروتستانت والإنجيليّين والخمسينيّين الذين يعتقدون بأنّه كلّما يتوب إنسان ويقبل بيسوع المسيح مخلِّصًا له شخصيًّا فهو مخلَّصًا ومبرَّرًا. بالنسبة إلى الإيمان الأرثوذكسيّ، التوبة هي موضوع جهاد إلى نهاية الحياة، إلى آخر نفَس.. ونميّز في حياة الآباء القدّيسين كيف أنّهم اقتربوا كثيرًا من الله ومع ذلك كان لديهم باستمرار روح التوبة. وأيضًا في عبادتنا الكنسيّة، في نصوصها المقدّسة، في التسابيح وفي الصلوات نجد الكتّاب القدّيسين يضعون التوبة كشرط ضروريّ للحياة المسيحيّة. نرتّل في القانون الكبير: "أخطأنا وأثمنا وظلمنا أمامك..". وفي القدّاس الإلهيّ، يقدّم الكاهن القرابين من "أجل خطايانا وجهالات الشعب". إذًا، موقف الإنسان المسيحيّ أمام الله هو دومًا موقف توبة.
علامة التوبة الصادقة هي الاعتراف بالخطايا أمام الله وأمام خدّامه وهذا يشترط تواضعًا. بدون تواضع حقيقيّ لا توجد توبة. لا يتميّز الاعتراف من خلال التوبة والتواضع، بل، فقط، عندما يتم أمام الله والكنيسة. لأنّه في كثير من الأحيان نشعر بالحاجة لكي نقول خطايانا لأشخاص نثق بهم أو للطبيب النفسيّ. ولكن هذا الاعتراف لا يتمّ أمام الله. فبواسطة الاعتراف في الكنيسة وأمام خادمها المعرّف يتواضع الإنسان حقيقة. يقبل بأنّ خطيئته ليست أمرًا شخصيًّا أو شيئًا يتعلّق به وحده أو يتعلّق به مع الله، فقط، بل يخصّ الله والكنيسة، وأنّه يتوجّب عليه أن يطيع الكنيسة والروابط التي تربطه بها. فالبعض يقولون: "ما الحاجة لكي أذهب للاعتراف أمام الكاهن؟ أقولها لله مباشرة".
ولكن من اللحظة التي نقبل فيها أنّه بواسطة الكاهن سيُغفر لنا، يحلّ تواضع في نفسنا، نطيع المسيح والكنيسة اللذين يريدان أن تُمنَح مغفرة الخطايا بواسطة الكهنة وليس من خلال علاقة شخصيّة مع الله، كما يفعل البروتستنانت، وهكذا نقتبل الخلاص الكنسيّ وليس الفرديّ، أي نحن لا نخلص كأفراد، بل داخل جسد المسيح الذي هو الكنيسة. نقبل أن يسامحنا الله بواسطة كنيسته ويشفينا، وأنّه لا يستطيع الإنسان لوحده أن ينجو، وأنّ خادم الكنيسة مع كونه إنسانًا يحمل ضعفًا، إلّا أنّه يستطيع أن يساعد المؤمن لكي يسامَح ويجد طريقه نحو الله. وأعتقد أنّ كلّ هذا يسبقه تواضع ويتضمّن تجاوزًا للأنا وللتمحور حول الذات والاكتفاء بها، الذي هو موت للحياة الروحيّة. فالإنسان الذي يعتقد مكتفيًا بذاته، فقط، لا يستطيع أن يتّحد حقيقة مع الله أو مع الكنيسة فمركزه هو ذاته وليس الله. إذًا، فبالاعتراف يحقّق ضربة قويّة ضدّ الاكتفاء بالذات وتمركزه حول نفسه وضدّ الأنانيّة. لذلك لا يُعَدّ مبالغة أن نقول بأنّ الحياة المسيحيّة الحقيقيّة تبدأ في اللحظة التي يبدأ فيها الإنسان المسيحيّ أن يعترف بتوبة.
الاعتراف بتوبة يخلّص الإنسان ويريحه، يريحه لأنّه يحرّره من ثقل القلق. فالخطيئة تخلق قلقًا يعذّب الإنسان حتّى ولو حاولنا أن نخفي أنفسنا قدر ما نشاء. ثمّ، وبواسطة سرّ التوبة يتبيّن للإنسان عِظم محبّة الله المطلقة المسامِحة. يقول كاهن أرثوذكسيّ: "لا يوجد وقت لا يكون فيه الإنسان محبوبًا لدى الله كما عندما يعترف بتوبة". يساعد الاعتراف الإنسان الخاطئ كي يعيش الكنيسة كجسد المسيح وكشركة أشخاص في المسيح وليس كمؤسّسة للخلاص بطريقة قانونيّة كما يرى الغربيّون سرّ الكنيسة، إذ بواسطة الاعتراف تقوم علاقة روحيّة بين الإنسان والأب الروحيّ. فبالنسبة لنا ليس الاعتراف محاكمة كما هو الحال عند الغربيّين، ولذلك فنحن لا نعترف داخل غرف الاعتراف التي يعترف فيها الغربيّون دون أن يراهم الأب الروحيّ. فهذا لا معنى له في لاهوتنا، لأنّه يعين على القضاء على العلاقة الشخصيّة بين المؤمنين، التي تظهر بشكل خاصّ من خلال الاعتراف. الأب الروحي هو الأب والأخ الذي يقتبل ويحبّ الأخ، يتألّم معه ويفرح معه. فأحد هؤلاء الآباء، شيخ غير متعلّم كان يعرّف في إحدى كنائس أثينا، قال مرة: "يأتي إلى هنا أناس لديهم آلام كبيرة. يبكون وأنا ليس لديّ شيء أقوله لهم، هم يبكون وانا أبكي معهم". فما الذي يريده إنسان متألّم أكثر من هذا؟ أن يذهب إلى أب روحيّ وأن يبكي الأب الروحيّ معه: "ابك مع الباكين وافرح مع الفرحين".
يساعد الاعتراف المعترف كي يجد أبًا على صورة الآب السماويّ، لكي لا يشعر أنّه يتيم روحيًّا في العالم. ينبغي أن يلدنا أحد روحيًّا داخل الكنيسة، وهذه العلاقة بين الأب الروحيّ والمعترف هي خلاص للمسيحيّ. كاتب وجوديّ فرنسيّ أصبح أرثوذكسيًّا، ففي إحدى الكلمات التي ألقاها وشرح فيها الأسباب التي دعته ليصبح أرثوذكسيًّا قال فيها من بين ما قال: "نحن في الغرب أضعنا الأب. ليس لدينا أب، وهو السبب الذي دعاني لأصبح أرثوذكسيًّا، لأنّه في الكنيسة الأرثوذكسيّة وجدت أبًا". إذًا، فواحدة من البركات الكثيرة في حياتنا هي أن نجد أبًا، يقودنا نحو الله ونحن نقدّم له قلبنا بتواضع، وهو بدوره وبتواضع أيضًا وبنعمة المسيح يقودنا نحو الله.
يساعد هذا السرّ الإنسان كي تجاوز ويجابه حالات رهيبة لا مخرج منها مثل الانتحار والمآسي العائليّة والأمراض التي لا شفاء لها، ففي مثل هذه الحالات لا يمكن أن توجد حلول بشريّة، بل حلول بشريّة إلهيّة، وذلك باستنارة من الله فقط. ففي سرّ التوبة لا يفعل الإنسان فقط ولا الله فقط، بل خدمة هذا السرّ هي إلهيّة بشريّة، كما هو الحال في كلّ كيان الكنيسة وكلّ الرعاية الأرثوذكسيّة. الأب الروحي لا يفعل شيئًا لوحده، بقواه الذاتيّة، لأنّه عندما سيعتمد على خبرته ومعرفته ومقدرته النفسيّة سيفشل. فموقف الكاهن أمام الإنسان مركز الإنسان الذي سيحدر النعمة الإلهيّة. الأب الروحيّ يقدّم كلّ ما يستطيعه بشريًّا، ولكن الله ينهي والله ينعم. وعندما يشعر الأب الروحيّ ضميريًّا بعدم مقدرته، فإنّ الله يمنح نعمته، ويفعل الروح القدس في الاعتراف.
لا يوجد لدى الكاهن عمل أكثر تعبًا من عمل الاعتراف، لأنّه لا يستطيع أن يعرّف وهو من علو ينبغي أن يعيش مع الإنسان، أن يتألّم معه، أن يشعر بحالته الخاطئة، أن يجعل مشكلته مشكلته هو. لذلك فكثير من الآباء الروحيّين أصيبوا بوعكات صحّيّة بسبب تقدمتهم هذه وتضحيتهم في سرّ التوبة، كما حدث لكاهن راحل كان أبًا روحيًّا لسنوات كثيرة، ومن كثرة ما كان يعرّف باستمرار وخلال ساعات الليل، أصيب بأوجاع دائمة في رأسه عذّبته طول حياته. إنّ أوّل من ينبغي عليه أن يعترف هم الآباء الروحيّون، الكهنة، اللاهوتيّون. نحن ينبغي أن نكون الأوائل في سرّ التوبة لكي يمنحنا الله نعمته، فإذا لم تكن لدينا خبرة شخصيّة، فماذا سنقول للآخرين؟ صحيح ما قيل بأنّ أفضل أب روحيّ هو أفضل من يعترف.
مقتطفات من عظة ألقيت في 6 آذار 1987. عن كتاب بستان الروح لعام 1991.