الأحد 17 آب 2014

الأحد 17 آب 2014

17 آب 2014
 
الأحد 17 آب 2014
العدد 33
الأحد العاشر بعد العَنْصَرَة
اللَّحن الأوَّل  الإيوثينا العاشرة
 
* 17: الشَّهيد مِيرُن. * 18: الشَّهيدان فلورُس ولَفْرُس، أرسانيوس الجديد الَّذي من بارُوس. *19: أندراوس قائد الجيش والـ2593 المستشهدون معه. * 20: النَّبيُّ صموئيل. * 21: الرَّسول تدَّاوس، الشُّهداء باسي وأولادها. *22: الشَّهيد أغاثونيكُس ورفقته.  * 23: وداع عيد الرُّقاد، الشَّهيد لوبُّس.   * 
 
المَثَلُ الصَّالِحُ
 
في رسالة اليوم، من كورنثوس الأولى، للرّسول بولس، دعوة لأهل كورنثوس أن يقتدوا به (4: 16).
 
لا تُؤْخَذُ الحياة المسيحيّة إلَّا بالقدوة. لذا، كان البيت المسيحيّ هو الحاضِن للحياة المسيحيّة بامتياز. خارج البيت المسيحيّ يتأثّر ناسُ الكنيسة بجماعات قليلة وببعض الأفراد، هنا وهناك، نحو إيمان فاعِل بالمحبّة. الكتب والمواعظ والأحاديث، بعامّة، تساعد، لكنّها لا تكفي. ولعلّ روح الرّبّ يَنْقَدِحُ في بعض القلوب من جرّائها إذا ما كانت عند فلان أو فلان استعدادات طيِّبة، أو لأسبابٍ، الله بها أعلم.
لهذا السّبب، قلْ لي ما واقع العائلة أَقُولُ لك، بعامّة، أيّ جيل تُنْشِئ. 
 
المسيحيّة نمط حياة يُؤخَذُ بالخبرة، على نحو ما أوصى به ناسِكٌ تلميذَهُ، لمّا سأله هذا الأخير: "ماذا تريدني أن أعمل؟"، فأجابه النّاسك: "كلّ ما تراني أعمله اعمله أنت أيضًا!".
 
جرجي نَاهَزَ الثّمانين. أُحِبُّ، دائمًا، أن أجلس إليه لأنّه يخبرني عن المدرسة الّتي تعلّم فيها، أقصد مدرسة البيت. تعلّم قليلًا في مدرسة مار يوحنّا المعمدان في دوما. ولكنْ، ما انْطَبَعَ في وجدانه يعود إلى ما درّبه عليه، بخاصّة، جدّاه.
 
ممّا نقله من أيّام طفولته، أنّ جدّه، أبا حنّا، وعده، ذات مرّة، وكان عمره خمس سنوات، أن يأخذا الحمار ويذهبا معًا إلى كرم العنب، على بُعْدِ حوالي ساعة ونصف السّاعة من البيت. قال له نذهب بعد غد. 
 
في اليوم التّالي، مرض أبو حنّا مرضًا شديدًا وارتفعت حرارته إلى أربعين درجة مئويّة. فلمّا حلّ اليوم الموعود، وكان الجدّ، بعدُ، على حاله، نادى أمّ حنّا أن تُعِدَّ له ملابسه لأنّه سيذهب مع حفيده جرجي إلى الكرم. فَعَلَا صوتُها واتّهمته بالجنون!. فلم يقتنع. قال لها: وَعَدْتُ الصّبيّ ولا أُريد أن أُغَيِّر في وَعْدِي له، لكي يتعلّم ألَّا يعود عن وعده، تحت أيّ ظرف، متى قطع وعدًا لأحد!. وهكذا، ذهب الجَدُّ والحفيدُ وأَتَمَّا ما اتَّفَقَا عليه. وقد لازَمَ أبو حنّا الفراش، بعد ذلك، أسبوعًا كامِلًا في حال صعبة. مرّت الأيّام، لكن جرجي حفظ الدّرس جيِّدًا ولم ينسَه!.
 
مرّة أخرى، سَأَلَتْ أمّ حنّا حفيدها جرجي، وكان في ذات العمر تقريبًا: اِصْعَدْ إلى السّطح وَأْتِنِي ببصلَتَيْن حمراوتَيْن. نَبَّهَتْهُ أن لا يأخذ شيئًا من السّطح الّذي هو فوقهما مباشرة، بل من السّطح الأخير، لأنّ ما هو فوقهما مباشرة هو للجيران وليس لهما. صعد الصّبيّ إلى السّطح، ولرعونته أتى بكُوزَي بصل من السّطح الأوّل. فلمّا نزل إلى جدّته قالت له: رُدَّهُمَا!، لقد قُلْتُ لك أنّ البصل الّذي هو فوقنا مباشرة هو للجيران وليس لنا. قالت له ذلك ونَهَرَتْهُ. فصعد من جديد وفعل كما علّمته جدّته. ومرّت الأيّام، وبلغ جرجي الخامسة والسّبعين. عاد من أوستراليا حيث أمضى أكثر عمره. وفيما هو يتنزّه في الحقل، ذات صباح، لفته عنقود عنب شهيّ المنظر. فدنا منه وأراد قطفه. وإذا بصوت جدّته يتردّد في وجدانه: هذا ليس لنا يا بنيّ!، فانْتَبَهَ وتأدَّبَ وانصَرَفَ!.
 
المدرسةُ الأهمُّ الّتي نحن بحاجة لأن نَتَنَشَّأَ فيها هي الّتي تعلّمنا السّلوك المسيحيّ والفضائل والصّلاة والصّوم، وكلّ ما يجعلنا نتصرّف بمخافة الله. المدرسة الّتي نتعلّم فيها القراءة والكتابة والحساب والتّاريخ والجغرافيا وما سوى ذلك تساعدنا في التّعامل مع النّاس، ولكن مدرسة الفضائل هي الأساس. ما المنفعة، إذا نجحنا في المدرسة ونلنا علامات جيّدة وكنّا أنانيّين، لا نحبّ إلّا أنفسنا، متكبِّرين، نعامل الآخَرين باحتقار، كذّابين، لا نحفظ وعودنا للنّاس، ونمدّ أيدينا إلى ما ليس لنا؛ ونتكلّم بالسّوء على الآخَرين؟...
والأهل، لكي يعطوا أولادهم دروسًا في المحبّة والمسامحة والتّضحية والصّبر والخدمة وغير ذلك، عليهم أن يسلكوا هم، أوّلاً، في ما يريدون أولادهم أن يتعلّموه منهم. وإلّا فإنْ سمع الأولاد ذَوِيهِم يقولون بعكس ما يفعلون ويفعلون بعكس ما يقولون، فإنّ هذا سوف يكون جارِحًا ومؤذِيًا لنفوسهم، وسوف ينطبع في أذهانهم أنّه لا حاجة لأن يكون الإنسان مستقيمًا في ما يفعل ولا أمينًا في ما يَعِدُ به.
تربية نفوس أولادنا هي الأساس الّذي نبني عليه صروح الحضارة في مجتمعنا، ونشهد بها لإيماننا بالرّبّ يسوع المسيح!.
 
 
طروباريَّة القيامة باللَّحن الأوَّل 
 
إنَّ الحجرَ لمّا خُتِمَ من اليهود، وجسدَكَ الطَّاهِرَ حُفِظَ من الجُنْد، قُمْتَ في اليوم الثَّالِثِ أيُّها المخلِّص، مانِحًا العالمَ الحياة. لذلك، قوّاتُ السّماوات هتفُوا إليكَ يا واهِبَ الحياة: المجدُ لقيامَتِكَ أيُّها المسيح، المجدُ لمُلْكِكَ، المجدُ لتدبيرِكَ يا مُحِبَّ البشرِ وحدَك.
 
طروباريَّة الرُّقاد   باللَّحن الأوَّل
 
في ميلادِكِ حَفِظْتِ البَتُولِيَّةَ وصُنْتِهَا. وفي رُقَادِكِ ما أَهْمَلْتِ العالم وتَرَكْتِهِ يا والِدَةَ الإله. لأَنَّكِ انتَقَلْتِ إلى الحياة بما أنَّكِ أُمُّ الحياة. فبشفاعاتِكِ أَنْقِذِي مِنَ الموتِ نفوسَنا.
 
قنداق رقاد السَّيِّدة  باللَّحن الثَّاني
 
إنَّ والِدَةَ الإلهِ الّتي لا تَغْفَلُ في الشَّفَاعَات، والرَّجَاءَ غيرَ المَرْدُودِ في النَّجَدَات، لم يَضْبُطُها قبرٌ ولا موتٌ، لكن، بما أَنَّها أُمُّ الحياة، نَقَلَها إلى الحياة الَّذي حَلَّ في مستودَعِها الدَّائم البتولِيَّة.
 
 
الرِّسَالَة 
1 كو 4: 9-16
 
لِتَكُنْ يا رَبُّ رَحْمَتُكَ عَلَيْنَا
اِبْتَهِجُوا أَيُّهَا الصِّدِّيقُونَ بالرَّبّ
 
يا إخوةُ، إنَّ اللهَ قد أَبرزَنَا نحنُ الرُّسلَ آخِرِي النَّاسِ كأنَّنَا مَجعُولونَ للموت. لأَنَّا قد صِرنَا مَشْهدًا للعالمِ والملائكةِ والبشر. نحنُ جُهَّالٌ من أجلِ المسيحِ، أمَّا أنتمُ فحكماءُ في المسيح. نحنُ ضُعَفاءُ، وأنتم أقوياءُ. أنتم مُكرَّمُونَ، ونحن مُهَانُونَ. وإلى هذه السَّاعةِ نحنُ نجوعُ ونَعطَشُ ونَعْرَى ونُلْطَمُ، ولا قرارَ لنا، ونَتعَبُ عامِلين. نُشْتَمُ فَنُبَارِك. نُضطَهدُ فنحتَمِل. يُشَنَّعُ علينا فَنَتَضَرَّع. قد صِرنَا كأقذارِ العالمِ وكأوساخٍ يستَخْبِثُهَا الجميعُ إلى الآن. ولستُ لأُخْجِلَكُم أكتُبُ هذا، وإنَّما أَعِظُكُم كأولادي الأحبَّاءِ. لأنَّه ولو كانَ لكم رُبْوَةٌ منَ المُرشِدِينَ في المسيحِ فليسَ لكم آباءٌ كثيرون. لأنّي أنا وَلَدْتُكُم في المسيحِ يسوعَ بالإنجيل. فأَطْلُبُ إليكم أنْ تكونُوا مُقْتَدِينَ بي.
 
الإنجيل
 
متَّى 17: 14-23 (متَّى 10)
 
في ذلك الزّمان، دنا إلى يسوعَ إنسانٌ فجثا لهُ وقال: "يا ربُّ ارحمِ ابني، فإنَّهُ يُعَذَّبُ في رؤوسِ الأَهِلَّةِ، ويتألَّمُ شديدًا لأنَّهُ يقعُ كثيرًا في النَّار وكثيرًا في الماءِ، وقد قدَّمْتُهُ لتلاميذِك فلم يستطيعوا أنْ يَشْفُوهُ". فأجاب يسوع وقال: "أيُّها الجيلُ الغيرُ المُؤْمِنِ الأَعْوَجُ إلى متى أَحْتَمِلُكُم. هَلُمَّ بهِ إليَّ إلى ههنا"، وانتَهَرَهُ يسوعُ، فخرجَ منهُ الشّيطانُ، وشُفِيَ الغُلامُ من تِلْكَ السَّاعة. حينئذٍ دنا التّلاميذُ إلى يسوعَ على انفرادٍ وقالوا: "لماذا لم نستَطِعْ نحنُ أنْ نُخْرِجَهُ"، فقال لهم يسوعُ: "لِعَدمِ إيمانِكُم. فإنِّي الحقَّ أقولُ لكم: لو كانَ لكم إيمانٌ مثلَ حبَّةِ الخردلِ، لَكُنْتُم تقولونَ لهذا الجبلِ انتقِلْ من ههنا إلى هناك فينتقِلُ ولا يتعذَّرُ عليكم شيءٌ. وهذا الجِنس لا يخرُجُ إلَّا بالصَّلاةِ والصَّوْم". وإذ كانوا يتردَّدُون في الجليل، قال لهم يسوع: "إنَّ ابنَ البشرِ مُزْمِعٌ أنْ يُسَلَّمَ إلى أيدي النّاس، فيقتلُونَهُ، وفي اليوم الثَّالِثِ يقوم".
 
 
في الرِّسَالَة
 
يعالج الرَّسول بولس في الإصحاحات الأربعة الأولى من رسالته الأولى إلى كنيسة كورنثوس مشكلة التحزّبات الحاصلة في تلك الكنيسة. وقد وصف بولس، بدءًا، تلك المشكلة بقوله: "فلقد بلغني عنكم، أيّها الإخوة، أنّ بينكم خصومات؛ أعني بذلك أنّ كلّ واحد منكم يقول: "أنا لـ بولس"، (أو) "أنا لـ أبلّس"، (أو) "أنا لـ كيفا" ..." (11:1ـ12).

فمن هو أبلّس؟، ومن هو كيفا (أو صفا)؟، وعلامَ التّحزّب؟.
 
لقد حمل الرسول بولس، يرافقه سيلا وتيموثاوس، البشارة الإنجيليّة إلى مدينة كورنثوس، العاصمة الكبيرة لولاية أخائيّة (جنوب اليونان) الرّومانيّة في خريف عام 50 م.، وأنشأ الكنيسة هناك، "وأقام سنة وستّة أشهر يعلّم، في ما بينهم، كلمة الله" (الأعمال 11:18). وغادر بولس كورنثوس بحرًا، في ربيع  52 م.، ومرّ بأفسس، عاصمة ولاية آسية الرومانيّة، في طريقه إلى أورشليم، حيث "صعد فسلّم على الكنيسة، ثمّ انحدر إلى أنطاكيّة حيث قضى مدّة. ثمّ خرج وطاف في غلاطيّة وفريجيّة (من كور آسيا الصغرى) بالتّعاقب، وهو يشدّد التّلاميذ جميعًا" (الأعمال 18). وكان بولس قد أقام في كورنثوس عند أكيلا وزوجته برسكِلّة، يعمل معهما في صناعة الخيام. وأكيلا "يهوديّ، بنطيّ الأصل، كان قد قدم، منذ قريب من إيطاليا ... لأنّ (القيصر) كلوديوس كان قد أمر جميع اليهود بالخروج من رومة"، بسبب المشادّات الّتي حصلت بينهم حين آمن قسم منهم، ومن  جملتهم أكيلا وزوجته، بالمسيح يسوع. وإذا كان بولس قد خطّط أن تكون أفسس مركز عمله البشاريّ الجديد، بعد كورنثوس، فقد طلب من أكيلا وبرسكلّة أن ينتقلا إلى أفسس ليكونا عونًا له هناك. ونعود إلى رواية لوقا في الأعمال: "وقدم أفسس يهوديّ، اسمه أبلّس، منشأه الإسكندريّة، رجل فصيح وطويل الباع في الكتب. وكان قد لُقّن طريق الرّبّ. وكان في حرارة روحه يتكلّم ويعلّم بتدقيق ما يخصّ بيسوع، وهو لا يعرف إلّا معموديّة يوحنّا. فطفق إذن يخطب في المجمع بجرأة. فلمّا سمعه أكيلا وبرسكلّة أخذاه إليهما وشرحا له "طريق الله شرحًا أدقّ" (الأعمال 18). نلاحظ، استطرادًا، تسمية الدّعوة المسيحيّة بـ "طريق الرّبّ" أو "طريق الله". مَنِ الّذي لقّن أبلّس طريق الرّبّ؟، وأين؟. هذا ما لم يذكره لوقا. مَنِ الّذي حمل الدّعوة المسيحيّة إلى روما حيث قبلها أكيلا وبرسكلّة هناك؟. أشخاص عديدون، لم يصلنا خبرهم، قاموا بذلك. لوقا وحده من مسيحيّي العصر الرّسوليّ، الّذي اهتمّ بتدوين أخبار انتشار الإنجيل. وانتقى من الأخبار ما يخدم هدفه اللّاهوتيّ فقط. لذا، فقد ضاع الكثير من تاريخ العصر الرّسوليّ ولم تصلنا أخباره.
 
نعود مجدّدًا، إلى رواية لوقا: "وإذ كان أبلّس يريد أن يعبر إلى أخائيّة حثّه الإخوة على ذلك، وكتبوا إلى التلاميذ (في كورنثوس) أن يقبلوه. فلمّا وصل "ساعد بالنّعمة كثيرًا، أولئك الّذين كانوا قد آمنوا؛ لأنّه كان يُحَاجُّ اليهود جهرًا حجًّا بليغًا، مبيّنًا من الكتب أنّ يسوع هو المسيح" (الأعمال 18). لماذا اهتمّ لوقا بسرد خبر أبلّس؟، أليس ليساعدنا في فهم ما كتبه بولس في رسالته إلى كنيسة كورنثوس؟. بلى!. ويتابع لوقا: "واتّفق، إذ كان أبلّس في كورنثوس، أنّ بولس جاز في النّواحي العالية (من آسية الصُّغرى)، ثمّ بلغ أفسس..." (الأعمال 1:19). ومن أفسس، حيث أقام بولس أكثر من سنتين، تمّت مراسلات عديدة بينه وبين كنيسة كورنثوس؛ جُمِعَت، فيما بعد، رسائلَ بولس إليهم في رسالتين طويلتين ضمن مجموع الرّسائل البولسيّة.
 
لقد أُخِذ فريق من كنيسة كورنثوس بفصاحة كلام أبلّس، المعلّم القدير، وبلاغة مقولاته وخطبه، فأخذ يحكم بأفضليّته ورفعته على تعليم بولس. فيما فاخر آخَرون، بتقبّلهم الإنجيل الّذي نادى به بطرس، الأوّل بين الرّسل الإثني عشر، والشّاهد الأوّل لقيامة المسيح. أين تقبَّلوا هذا الإنجيل؟، وعلى يد مَنْ؟، هذا ما لا نعرفه يقينًا. الأرجح أن يكونوا قد قَدِمُوا من فلسطين إلى كورنثوس. وألّفوا، مع آخَرين، "حزب كيفا" ضمن كنيسة كورنثوس. و"كيفا"، لفظة آراميّة (نجدها ضمن اسم بلدة "راس كيفا") تعني الصّخر. وتقابلها "صفا" بالعربيّة و"بتروس" (بطرس) باليونانيّة. إذًا، "كيفا" هو "بطرس" الرّسول.
 
مثل هذه التّحزّبات عاوَدَت الظّهور مرارًا في الكنيسة، وواحِد منها كان وراء استحداث "عيد الأقمار الثّلاثة". ونحن اليوم، ألا نعاني معاناة مريرة من مثل هذه التّحزّبات؟ فإلى متى؟!.
 
الإيمانُ ومَعْرِفَةُ الذَّاتِ
 
من أصعب المواضيع اللَّاهوتيّةِ هو موضوعُ الإيمانِ، وفَهمُ مَداهُ وعُمقِه الوجوديَّين، وأَبعادِهِ على الإنسان الـمُعاصِر. مِن مُسَلَّمَاتِ الإيمانِ المُسْتَقِيمِ وجودُ اللهِ في المسكونةِ والكون. ومن الـمُستحيل أن نجعلَ من هذه الـمُعطياتِ موضوعًا للبَحثِ، إذ إنّ العقلَ البشريَّ محدودٌ بِلاوُجوديَّتِه بالمقارنَةِ بوجود الإله المالئ الكلّ. فالإنسانُ موجودٌ لأنَّ الله الّذي خلقَهُ موجودٌ. وهكذا، المخلوقُ من العَدَمِ يبقى عَدَمًا، ولو هو حَيٌّ يتحَرَّكُ، ما لم يُنَمِّ علاقَتَهُ بالله الّذي دعاهُ إلى الخروجِ من أرضِ العبوديَّةِ إلى ملكوتِ الميراثِ الأبديِّ. فكيفَ يَعِي الإنسانُ هذا الوجودَ وكيفَ يعرِفُهُ؟. هذا الغَرَضُ يَعْسُرُ الوُصولُ إليه ما لم يَكْشِفِ اللهُ ذاتَهُ لبشريّةِ الدّنيا. فالكشفُ الإلهيُّ هو موهَبَةُ اللهِ للبشرِ. اللهُ الثّالوثُ، بهذا يَهَبُ الإيمانَ، أي يَهَبُ معرِفةً أساسيّةً ومبدئيّةً عنهُ لكُلِّ النّاسِ بطرقٍ مُتَنَوِّعَةِ الاختلافِ. ما يعيهِ المسيحيّ عن الله، بطريقةٍ ولو نظريّةٍ، قد تسلَّمهُ من الكنيسةِ، من الكتاب المقدّس والآباء القدّيسين. ولكنَّ كلّ هذا لا يجعلُ من الشّخصِ إنسانًا مؤمِنًا. فطريقُ الإيمانِ وموضوعُه ليسَ الله بل كيفيّة الوصولِ إليه، أي بُغيتهُ، وبكلامٍ آخَر، أن يقيمَ المجبولُ علاقةً بجابلهِ الّذي دعاه أوَّلًا إلى الاتِّحادِ به. نتيجةُ كُلِّ هذا أنَّ الإيمانَ بَحْثٌ بغيتُهُ معرفةُ اللهِ وحبُّه. إنّهُ لوَهمٌ أن يحبَّ الإنسانُ اللهَ دون معرفتِه، ولَجَهْلٌ معرفةُ اللهِ دون البَحْثِ عنهُ، والبَحْثُ لناقِصٌ دون الكَشْفِ. "فَتِّشُوا الكُتُبَ" يقول المسيحُ لـمُخاطِبِيهِ. فالكتابُ يقول إنَّ "ملكوتَ اللهِ لهو في داخِلِكُم". وهذا يتطلَّبُ مِن طالِبِ الإيمانِ أن يبحثَ في داخِلِ نفسِهِ لكي يجد الله. يقولُ القدّيسُ نكتاريُوسُ في كِتابِهِ "إعرَف نَفْسَكَ"، إنَّ معرفةَ الذّاتِ لهي الطّريقُ الأَسْلَمُ للوصولِ إلى تفعيلِ الإيمانِ الموهوبِ للبشر، لأنَّ معرفةَ اللهِ تتطلَّبُ معرفةً للذّاتِ ومن ثمَّ للقريبِ. لا يستطيعُ أحدٌ، بحسبِ قدّيسِنا، أن يصِلَ إلى محبّةِ الله دون أن يكون قد وصلَ إلى درجةٍ من محبَّتِهِ لذاتِهِ ومن ثمّ للقريبِ. مَحَبَّةُ الذّاتِ هذه ليست محبّةُ القِنْيَةِ أو الغنى أو المصالِحِ البشريّةِ. إنَّها محبّةُ خلاصِ النَّفسِ. هي السَّعْيُ وراءَ إعطاءِ الوِجْدانِ ما يَنْقَصُهُ، وَهذا هو الله. فالنّفسُ بطبيعتِها ومنذ الولادةِ، بسبب السَّقْطَةِ الموروثَةِ، تَقْني حواجزَ تعيقُها من التّقرب من الله. وبمرور الوقتِ تقتني حواجزَ أُخرى. فمعرفَةُ النَّفسِ، كما يقولُ أسقُفُ المدن الخمس، تتطَلَّبُ البحثَ عن تلك الحواجز ومعرفتِها وتسليمها لله الذي بقوّةِ ساعدهِ يُحَطِّمُها. ومن هنا، يتحقّق قول القدّيس بولس إنَّ "الإيمانَ قِوَامُ الأمور الّتي تُرْجَى وبُرْهَانُ الحقائقِ الّتي لا تُرَى" (عِب 11: 1). وما الرّجاءُ - كما يقول آباؤُنا مُعَلِّمُو المسكونَةِ - إلّا أن يصبُوَ المرءُ إلى اللهِ الّذي سيخلِّصُه من عاقّاتِ النّفسِ و يَهَبُه القداسةِ؟. أن يعرفَ الإنسانُ ضَعَفاتهِ وأخطاءَهِ هو هدفُ البحثِ لتفعيلِ الإيمانِ. وبمعرفةِ النّفسِ يُشفِقُ الباحِثُ عليها ويُدرِكُ أنَّه يحبُّها إذ إنّها وديعةُ الخالقِ. وإن أحبَّها يُجاهِدُ بإدخال الله إلى عُمقِها، إذ إنّه يعي أنَّ الله قادِرٌ على شفائِها. وبعدما يشفي الله النّفسَ يكشف عن نفسِهِ بعمقٍ أكبر، فتتحرَّكُ النّفسُ صوبَهُ كالعاشِقِ إلى معشوقِهِ، فتَفقَه وتَعِيَ عِلَّةَ وجودها، فتصلُ تدريجيًّا إلى "برهانِ الحقائق الَّتي لا تُرَى". أنتَ كمسيحيٍّ تعرِفُ أنَّ اللهَ موجودٌ وإنَّه وحدَه قادِرٌ على إنقاذِ نفسِكَ. فابدَأ، بمُساعَدَةِ أبٍ روحيٍّ، أن تكتَشِفَ ذاتَكَ وتُقرِّبَها هديّةَ إيمانٍ على مذبحِ اللهِ القدّوس.